خطبة الجمعة تتطلّب تأصيلاً شرعياً وملامسة لهموم الناس ومشاكلهم!! ">
الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تتميّز خطبة الجمعة بالاستمرارية في كل أسبوع، وفي العام الواحد 52 خطبة في الجامع الواحد. وهذا من المميزات التي تنفرد بها خطبة الجمعة ولا تتوفر في أي نوع من أنواع الخطب الأخرى.
وخطبة الجمعة لها قدسية حيث تمثل شعيرة من شعائر الإسلام، وهي التي ينبغي للخطيب أن يعتمد في إعدادها على التأصيل العلمي، وأن تلامس هموم الناس ومشاكلهم، ويتعايش مع قضايا المجتمع المحلي ويتناولها بعناية من أجل إيضاحها للناس ومعالجتها بشكل إيجابي مؤثر في نفوس الناس.
وخطبة الجمعة يجب أن تكون بليغة وأدبية وموجزة مؤثرة.. وفي الآونة الأخيرة كثر الكلام عن خطب الجمعة وتفاوتها.
«الجزيرة» طرحت القضية على عدد من ذوي الاختصاص الشرعي ليتحدثوا عن كيف تكون خطبة الجمعة مؤثرة في نفوس المصلين؟!
معالجة واقع المجتمع
يذكر بدايةً الدكتور عبداللطيف بن إبراهيم الحسين الأستاذ في كلية الشريعة بالأحساء أن الله تعالى أمرنا بالسعي إلى صلاة الجمعة وما تحويه من الاستماع إلى الخطبة الأسبوعية والإنصات، ومن هنا فيجدر أن تكون خطبة الجمعة مؤثرة ومعتنية بمن أتاها وحضرها واستمع إليها عموما، وعلى الخطباء مسؤولية كبيرة ومهمة عظيمة، وللارتقاء بخطباء المساجد يمكن أن يكون في النقاط الآتية:
*- تحديد العنوان المراد الخطبة فيه بشكل واضح:
بمعنى أن خطيب الجمعة يعد خطبة متكاملة في عنوان محدد وواضح في خطبته في وعظ المصلين والمستمعين وتنبيههم وإرشادهم وتذكيرهم ووعظهم، ولا داعي أن تتداخل المواضيع في الخطبة، فهناك اثنان وخمسون أسبوعاً في السنة، ويمكن أن يقسم المواضيع بصورة ملائمة.
*- حسن الاستدلال وفهم مقصد الشريعة:
ينبغي أن يكون الخطيب حسن الاستدلال في موضع دلالة النص، وتوجيه مقاصد الشريعة في توجيه الناس ولا سيما فيما يتعلق بالمصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، وعدم خلطها مع بعضها في تناول مسألة من المسائل، ولا يكون ذلك إلا بالتفقه في دين الله، والرجوع إلى العلماء فيما قد يشكل على الخطيب.
*- تجويد قراءة القرآن الكريم، وسلامة اللغة وفصاحة اللسان والإيجاز:
لا شك أن سلامة اللغة العربية وجمال الصوت وتجويد التلاوة في قراءة القرآن الكريم، والعناية بفصاحة خطبة الجمعة من الخطيب خير معين في الارتقاء بالخطبة والخطباء، فنحن مأمورون بحسن تلاوة كتاب الله تعالى وبتعلم اللغة العربية والتحدث في الخطبة بصورة صحيحة ووضوح الصوت والإيجاز كما يقول البلاغيون: البلاغة الإيجاز، وبهذا كله يتمكن المصلون من سماع الخطبة والتفاعل معها، والعيش في أجوائها الإيمانية والأخلاقية وغير ذلك، وأن يطيل في قراءة القرآن في صلاة الجمعة، ولا ينبغي أن يكون خطيب الجمعة كثير اللحن في الخطبة مع ضعف الأداء والتطويل الممل في الخطبة مخالف للهدي النبوي، وكما جاء في حديث نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» رواه مسلم.
*- معالجة ما يجد من قضايا ونوازل:
وأقصد بأن يقوم خطيب الجمعة بمعالجة واقع المجتمع وملامسة نوازله، وبهذا يسهم الخطيب في توجيه المجتمع في قضاياه واهتماماته بصورة قريبة من المصلين مع مراعاة التثبت والتبين والاستشارة والعناية بالتأصيل الشرعي الدقيق فيما يخطب فيه خطيب الجمعة.
المدرسة الأولى
ويشير الشيخ بدر بن علي بن طامي العتيبي مدير مركز الدعوة والإرشاد بالطائف إن المنبر هو المدرسة النبوية الأولى، ومن فوقه علم النبي- صلى الله عليه وسلم- العبادات القلبية والقولية والعملية أيضاً، كما شرح لأصحابه رضي الله عنهم صفة الصلاة، وأخبرهم بأمور الدنيا، وأخبار آخر الزمان، وأحداث الآخرة، وكثيراً ما يقول غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خطبنا رسول الله، فالمنبر شأنه عظيم، ورسالته سامية، ولو أن الخطباء قاموا بما يجب عليهم على الوجه المطلوب، واجتهدوا في النصح، وحسنت منهم النية، لصلح حال كثير من الناس، وتفقهوا في دينهم، خاصة وأن الناس يُقبلون على مجالس الجمعة على وجه الجزم والإلزام، والرغبة والفضيلة، فمن المؤسف أن يقابل إقبال الناس بخطيبٍ ضعيف الجناب، قليل العلم، ركيك العبارة، سيئ الأسلوب، فاقدٍ لأبجديات الخطابة والإلقاء، فكان لزاما على المسلم إن لم يكن أهلا لذلك أن يثقف نفسه، ويطور قدراته، ويزيد من خزائن معلومات، ويتدرب على مهارات الإلقاء والتعبير، والوقوف أمام الجمهور، فكل هذه (سبلٌ) و(أسباب) والله هو الهادي إلى سواء السبيل، وهو الذي يقبل القلوب ويقلّبها، ويهديها ويصرفها بحكمة منه وعدل، فلم يكن على البسيطة: أجمل خطابا، ولا أطيب كلاما، ولا أرق أسلوبا، ولا أصدق نصحاً، من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك آمنت به طائفة وكفر آخرون، فالهداية من الله، ولكن: لا يعني ذلك أن يُهمل الخطيب نفسه، ويزهد في العلم، ويقصر في جودة الطرح، وانتقاء المواضيع، وعليه.
الأثر الإيجابي
ويقدّم الشيخ بدر العتيبي مجموعة من المسائل المهمة لتحقيق الأثر الإيجابي من الخطبة وذلك على النحو التالي:
أولها: صدق النية، وإخلاص القصد، وما كان من القلب فإنه يصل للقلب، فيجب على الخطيب أن يجاهد نفسه في تصحيح النية، وأنه يقوم بجهاد عظيم باللسان، ويقوم مقام الأنبياء والصديقين هادياً ومبشراً ونذير، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
الثانية: صدق العلاقة بينه وبين الله تعالى، فهذا أدعى لصدق الكلمة، وقوة أثرها في الناس.
الثالثة: فقه الخطيب، ومعرفته بأصول الدين، وقواعد الشريعة، حتى يهدي الناس، ويعلم الحق من الباطل، والمعروف من المنكر، وما يباح وما يحرم.
الرابعة: معرفة حاجة الناس، والبدء بالأهم، وتعليمهم ما ينفعهم ولا يضرهم، وما يجمعهم ولا يفرقهم، ويحببهم في الإسلام لا ما ينفرهم عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بشرا ولا تنفرا، ويسراً ولا تعسراً، وتطاوعاً ولا تختلفا).
الخامسة: البعد عن مواطن الخلاف، وما يثير الشكوك، ويفرق الصف، فلا يعين أشخاصا بأسمائهم، ولا طوائف، ولا جنسيات، بدون مبيح شرعي، ويهتم بالتأصيل والتقعيد، ليميز الناس بين الحق والباطل، والصواب والخطأ.
السادسة: الانضباط في صلاته للجمعة، والسير مع المصلين في برنامج مرتب منوّع فيما يهمهم في أمور دينهم، يمرّ على شعائر الإيمان من أعلاها (التوحيد ولا إله إلا الله) إلى أبسط الآداب (كإماطة الأذى عن الطريق) فلا يشتغل بجوانب مفضولة ويترك الفاضلة الأهم.
السابعة: البعد عن الخوض في السياسة، وما لا ينفع الناس، ولا يهمهم في دينهم، فإن وقع حدثٌ سياسي أو عالمي غلب خبره على الناس، فلا يشتغل بشرحه والإذاعة عنه، وإنما يبين للناس ما الواجب عليهم حيال ذلك بمنظار إسلامي علمي سليم.
السابعة: أن تكون الخطبة مختصرة، فلا يطيل بالناس فيملوا، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر الخطبة وطول الصلاة علامة على فقه الخطيب، فإن طالت الخطبة فإن الناس يملون منها.
الثامنة: أحدية الموضوع، وعدم طرح أكثر من موضوع في خطبة واحدة، فإن هذا يشتت الذهن، ويضعف الإدراك، ومما يساعد على أحدية الموضوع، وضع عنوان ذهني للخطبة، كـ(الصبر) مثلاً، فيجتهد في ذكر فضله، وأنواعه، وأدلته من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح.
التاسعة: الوسطية في الألفاظ، فلا يتكلم بركاكة أسلوب، وسوء لسان، ولحن في اللغة، وبالضد من ذلك: لا يتكلم بمستوحش العبارات، وشواذ اللغة، والأسقم من ذلك أن يقحم لغة العجم، وعبارات السياسيين كـ(الإيدوليجية) ونحو ذلك! فليخاطب الناس بما يفهمون ويعلمون من لسان العرب الدارج بينهم.
العاشرة: مهارة الإلقاء، وبلوغ الصوت، ومتى يرفع الصوت، ومتى يخفضه، فلا يجعل الخطبة كله صراخ في صراخ، ولا يجعلها كله همسا وخفية! وإنما يخطب بصوت معتدل، فإن رأى المصلحة لرفع الصوت رفع، وإن رأى صواب الخفض خفض، وللسؤال صوت معلوم، ولاستفهام الاستنكار صوت معلوم، وللنداء صوت ومدٌّ معلوم.
تلك عشرة كاملة أراها تحقق تأثير الخطبة، واستفادة الناس منها، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
عوامل مؤثرة
وينبّه الشيخ عادل بن عبدالله الكلباني إمام وخطيب جامع عبدالمحسن المحيسن بالرياض إلى أن هناك عوامل لكي تكون خطبة الجمعة مؤثرة ومن أهمها إخلاص الخطيب، وأمانته في النصح، وإرادته الإصلاح، وأن يجعل تذكير الناس ووعظهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك أن يستحضر الخطيب أن المسلم الذي يقف تحت المنبر حضر تعبداً، وطاعة، وأنه إنما ينصت إليه لأجل ذلك، وأن الملائكة تشهد الخطبة وتستمع إلى الذكر، وأن يحرص الخطيب على أن يفيد الحاضرين بما يمكنهم تصحيحه من خطأ أو الزيادة فيه من الخير، فيبتعد عن تهييج العواطف بما لا مجال لتغييره، أو ليس في مقدور الحضور أن يفعلوا شيئا حياله، وقد يكون ذلك مؤذيا لمشاعرهم حين يشعرون بالعجز عن فعل شيء، وأن يكون الخطيب على قدر من البلاغة والفصاحة، وحسن التحضير، وقوة الاستدلال.
ومنها أن يختار الموضوع بعناية، ويجعل للمناسبة أهميتها في الحديث، ويبتعد عن التكرار، والإطالة، وأسلوب التبكيت والتهديد المقنط، وأن يهتم بطريقة الإلقاء والتعامل مع الصوت، وأن يكون المصلي قد حضر إلى الخطبة يريد الفائدة، ويرجو المنفعة، وينوي التغيير، لا مجرد الحضور تأدية للواجب وإسقاطا للفريضة؛ فحضور الخطبة رغبة في الاستفادة والذكر بمنزلة الخشوع في الصلاة.
وقال الشيخ الكلباني إنّ الارتقاء بخطباء المساجد، فمن أهم ما يمكن أن يؤثر في ذلك أن يختار الخطيب العالم العامل العابد، المثقف، الحامل لهم الأمة، المعتدل في الطرح، الحكيم في النصح، حيث لا ينفر، ولا يعسر، ولا يكره الناس بدينهم، ولا يقنطهم من رحمة ربهم، ولا يخاطبهم كالرعاع الذين لا يفقهون، أوكالجهلة الذين لا يعلمون. وربما احتيج إلى دورات في كل ما مضى، لا يكتفى فيها بأسلوب الإلقاء وطريقته.