وما كان ربك نسيا! ">
لدي تساؤل يحيرني كثيراً: إنسانة تمارس سلوكيات مشينة وتسببت في طلاق والديها وتسببت بمشاكل ناس كثير ببيوتهم وتخوض في أعراض الآخرين وتسببت بقطيعه بينهم وأخيراً بكل سهوله تتوظف بوظيفة رائعة وتتزوج من شخص ثري جداً وتسعد بحياتها فما حكمة رب العالمين من هذا؟.
ولك سائلتي الفاضلة الرد:
من الجمال في شخصيتك أن عبرت عن مشاعرك وأمطت اللثام عما يجمجم في خاطرك وتلك شجاعة وجراءة أدبية تحمدين عليها أيتها الفاضلة عندما تركل الإنسان بعض الخبرات الحياتية الموجعة ربما يتولد بداخله انفعالات بالغضب والثورة وعليه أتمنى أن لايكون سؤالك من ضمن الأسئلة التي يسأل عنها في غمرة المشاعر الملتهبة، حيث الغليان الداخلي وقد اضمر صاحبه جواباً لا يريد ألا يسمع غيره وهو و لا يرضيه سواه، واربأ بك أن تكوني كذلك وأقول مستعيناً ومتوكلاً على الله: إن من الحقائق الكبرى والمبادئ الراسخة في الرؤية الإسلامية أن لله حكمة تقصر معارف البشر عنها وتتضاءل مداركهم عن الوصول لكنهها وتعجز إفهماهم على تصورها ولسنا معنيين البتة برصد الحكم وفهمها إلا ما يسره الله لنا. وبالنسبة لمعادلة الظلم فليس بالضرورة أن يقف البشر على عقاب من ظلمهم أو أن يقتصوا منهم في هذه الحياة، يقول الشيخ علي الطنطاوي في حديث عذب شيق: (إن الاعتقاد بوجود الحياة الآخرة نتيجة لازمة للاعتقاد بوجود الله وبيان ذلك أن الله لا يقر الظلم ولا يدع الظالم بغير عقاب ولا يترك المظلوم من غير إنصاف ونحن نرى ظلمة ماتوا ولم يعاقبوا ومظلومين ماتوا ولم ينصفوا فكيف يتم هذا مادام الله موجوداً وهو أعدل العادلين!.. انتهى كلامه)؛ وربما لا يصيب الظالمين في الدنيا جزاء ما ظلموا وطغوا، ولكن في الآخرة سيتحقق كمال العدل الإلهي، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} وجاء في الحديث الصحيح: (إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته).قال القرطبي: «يملي: يطيل في مدّته، ويصحّ بدنه، ويكثر ماله وولده ليكثر ظلمُه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً}.. وهذا كما فعل الله بالظلمة المتجبرين من الأمم والقرون الخالية، حتى إذا تعاظم ظلمهم وتكامل جرمهم أخذهم الله أخذة رابية، فلم يرى لهم من باقية. فقري عيناً أيتها الفاضلة فسيأتي يوم لن تضيع فيه شاردة ولا واردة وسينزل كشف حساب دقيق وسيأخذ المظلومون حقوقهم وسيقتصون من الظلمة إن لم يعجل لهم في الحياة الدنيا.
وما من يد إلا يد الله فوقها
ولا من ظالم إلا سيبلى بظالم
ولن يقتصر الأمر فقط على البشر بل سيتجاوزه إلى الحيونات فيحكم الله بين الحيوانات فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور، حتى إنه ليقتص للشاة الجلحاء (التي ليس لها قرون) من القرناء. وفي هذا الشأن يروى عن أحد العصاة أنه قال ربي كم عصيتك ولم تعاقبني!.. وفي إحدى الليالي أتاه هاتف يقول له: كم عاقبتك وما شعرت!.. نعم فليس بالضرورة أن يكون العقاب خسارة مالية أو مرضاً مقعداً أو حادثاً مؤلماً فربما يعاقب الظالم على تبلد إحساسه أوتراكم الران على قلبه وربما يعاقب بفوات فرصة أو استمتاع بمعصية وهذا والله من أعظم العقوبات. سألت وفقك الله ما مالحكمة في سعادة من ظلمتك رغم ظلمها؟.. وهذا يحتاج منك إلى تعميق فكر وإعمال عقل وسيطرة على الانفعالات فهذا كلام خطير وفقك الله وتفاصيل الحياة لا تجري بمثل هذه البساطة، و لا يتعامل معها بتلك السطحية. فلسنا من يقرر متى وكيف وأين يعاقب الناس؟ فتلك أمور بيد العزيز الحكيم، واعلمي كذلك أن السعادة في هذه الحياة لاتختزل بزوج غني أو وظيفة جيدة فمفهومها أوسع، اشمل بكثير من هذا ولعلك تعودين إلى مقال صناعة السعادة في زاوية فجر قريب ففيه تفصيل مفيد، ومن الأمور التي يحسن التنبيه عليها ما لمسته في رسالتك أنك جعلت تلك الفتاة في مرتبة المجرمين وفي مصاف الآبقين بمجرد ما حدث بينكما وأقول وان أخطأت عليك أو سلكت سلوكا شائنا فلا يعني هذا أنها أصبحت من المغضوب عليهم فلعل لها أعمال لا تعلمينها غطت على هناتها وسقطاتها!.
وأذكرك بأن من الحقائق الكبرى في الرؤية الإسلامية أن لله حكمة تقصر معارف البشر عنها وتتضاءل مداركهم عن الوصول لكنهها وتعجز إفهماهم على تصورها ولسنا معنيين البتة برصد الحكم وفهمها إلا ما يسره الله لنا.
وأخيراً أوصيك ونفسي بالتسامح والصفح {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وطهري قلبك فتلك والله من أهم روافد السعادة.. يقول الأديب البرازيلي المبدع باولو كويلهو: (كلما زاد استعدادنا للعطاء كلما ازداد ما نحصل عليه من فرص السعادة والنجاح في الحياة). وهل هناك عطاء أعظم من الصفح والتسامح ونحن أيتها الفاضلة عندما نتسامح إنما نقدم خدمة عظيمة ليست لمن تسامحنا معه فحسب، بل لذواتنا أولاً فهناك الأجر العظيم والجوائز السنية في الآخرة وهناك جانب آخر تحدث عنه برايان تريسي حيث يقول: عندما نبني سجنا واحد فذلك يستلزم وجود شخصين سجين وسجان وكلاهما في السجن وعندما نتسامح ونحرر الطرف الآخر فإننا بهذا نحرر أنفسنا من رق سيطرة الآخر علينا وتفكيرنا فيه وأخيراً أسأل المولى أن يوفقك وييسر أمرك.