د. رضا محمد عريضة ">
في صحيح البخاري، عن أبي هريرة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ((من تردّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالداً مخلّداً فيها أبداً)) ((فالمنتحر هنا هدفه المطلق هو تدمير الذات المباشر، وهو ما يطلق عليه اسم الانتحار الحاد، لأنّ صاحبه أتى بفعل مميت مباشرة وسريعاً لتدمير ذاته فخلص منها ومصيره))، كما أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم (فهو في نار جهنم ..... الحديث).
أما النوع الثاني من الانتحار وهو مقصد المقالة الحالية، فهو ذلك الذي يُقدِم صاحبه على تدمير الذات التدريجي وهو ما يُطلق عليه الانتحار المزمن، حيث يفعل ذلك بشكل غير مباشر، بعض غير قليل يعيشون بيننا ويجعلون أنفسهم ضحايا لعملية من الإضرار بالذات وتعذيبها، وبذلك يعجلون من موتهم سنوات. وهؤلاء يعانون من اضطراب في المناعة الذاتية النفسية، وهو اضطراب يجعل الشخصية تهاجم نفسها، ومنشأ هذا الاضطراب يعود إلى الخلل في عملية التنشئة الاجتماعية في مراحلها المستمرة، وبالتالي ضعف الوازع الديني، مع خلل في المنظومة القيمية عامة، وضعف قيم الحفاظ على الذات خاصة.
ولعل من المفيد ذكر أن العامل المميز بين نوعي الانتحار هو أنه في حالة الانتحار الحاد، لا ينكر الشخص الرغبة في الموت والتخلص المباشر حين يقرر ذلك، بينما في الانتحار المزمن ينكر تلك الرغبة فتصبح تلك الرغبة مكبوتة.
فعلى السطح يبحث الفرد عن المتعة والإشباع المباشر، والإحساس بالسيطرة أو بعض الإشباعات النفسية الأخرى، ويعرف الموت أو الإعاقة على أنها نتائج سيئة لأفعال الفرد، ومن أخطر أفعال الفرد التي ترتبط بسلوك تدمير الذات هو التعاطي والإفراط فيه للمواد ذات التأثير النفسي، كالاستخدام المفرط للكحول (الخمور) وتعاطي المخدرات بأنواعها الطبيعية كالحشيش، أو المواد التخليقية، ومنها الترامادول وعائلته من المسكنات القوية ذات التأثير النفسي، ومعظم من ابتلوا بالتعاطي لتلك المواد يدركون جيداً الضرر الواقع على أجسامهم على المدى الطويل، والشائع بينهم رفض الانصياع لطبيب أو لناصح أمين، أو لفتوى شرعية، ويتداخل مع مقاومة الطبيب عرض آخر يتمثل في الإفراط في الطعام، وعرض فقدان الشهية، ففي حالة السمنة المفرطة يأتي الموت عن طريق تأثيرات نوبة قلبية قاتلة أو الفشل الكلوي، أما فقدان الشهية ففيه يزداد خطر الموت عن طريق تأثير تجويع الفرد لنفسه بنفسه.
وتمثل القابلية للوقوع في الحوادث عرضاً من أعراض تدمير الذات، حين تحدث للفرد مجموعة من المواقف المنذرة بأنه مقدم على خطر محدق فيهمل في اتخاذ الاحتياطات اللازمة أو يتراجع عن سلوك مدمر له وللآخرين، والواقع المعاش يشير إلى الكثير من الحوادث المرورية التي يرتكبها بعض الشباب برعونة بقيادتهم للسيارات، وكأنهم يقولون للآخرين ليس على الأرض غيرنا وإذا منهم الراحل عن الدنيا، وآخرون مقعدون وحركتهم مرهونة بمقاعد متحركة.. إنها مأساة تدمير الذات الجسمية بالإصرار على الرعونة السلوكية، تلك الرعونة التي أدت إلى شكل آخر لتدمير الذات المتمثل في قتل الآخرين دون أدنى خوف من الله، من القانون، من المجتمع، لأنه تمركز حول ذاته فقط هو لم ير سوى نفسه في لحظة يمكن أن يأتي فيها إيثار الآخرين على الذات إلا بالخير، وأشير هنا إلى حادث دهس شاب بالسيارة حتى الموت بصورة لا يقرها شرع ولا خُلق ولا عُرف، وذلك لأسبقية المرور من إشارة، ليصبح تدمير الذات بإيقاعها تحت القصاص أو السجن ... أو إلى ما يقره المجتمع من عقاب رادع لتلك الرعونة غير المبررة. إن مثل هؤلاء المعرضون لتدمير ذواتهم يميلون إلى الانشغال بالذات والنرجسية، وانشغال الفرد بذاته وحاجاته الشخصية، فيتمركز حول ذاته ويرون أن عالمهم الاجتماعي والأصدقاء والأسرة يدورون حولهم، إنهم شديدي الوعي بآلامهم ومعاناتهم ولكنهم لا يشعرون شعوراً حقيقياً بمحن وبلاوي الآخرين.
ويأتي عَرَض المازوخية من أعراض تدمير الذات، والمازوخية ترتبط بما عرضناه آنفاً، وهي سمة سلوكية يسعى فيها الفرد إلى إحداث الألم النفسي أو الجسمي بنفسه، وفي مثل هذه الحالة يوجد تناقض منطقي في المازوخية، لأنّ الشخص يبدو أنه يحصل على اللذة من الألم.
والمؤسف أن بداخل هؤلاء الأفراد حالة دفاعية، حيث لا يعترف الفرد ولا يسلم بأنه يبحث عن إيذاء جسمه بشكل إيجابي نشط، ولكنه بدلاً من ذلك يدرك شعورياً أنه ضحية أسباب خارجة عن سيطرته الذاتية.
وختاماً مؤقتاً: هل يعيد شبابنا قراءة وتدبُّر حديث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ , وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ , وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ». ويعيدوا قراءة سلوكياتهم وفق هذا الحديث فيرفقون بأنفسهم دنيا وآخرة.
اللهم عافنا في أبداننا واحفظ علينا صحتنا ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا، آمين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
- أستاذ علم النفس الاجتماعي المساعد، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.