سؤال الهوية.. واستشراف الآتي ">
تتجسد فضاءات هذه الرواية في الكويت، ما بين زمنين: زمن ماض هو الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، وزمن مستقبل متخيل، ينتهي عام 2020م. وما بين هذين الزمنين تشتبك كل الأزمنة وبيئاتها وظروفها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
بطل الرواية هو تلك الشخصية المتسائلة المفكرة دوماً منذ طفولتها، التي تطرح الأسئلة على كل المستويات: الوجود والإِنسان والوطن والهوية والفكر والصراع والطائفية والمذهبية.
«الجهل بالشيء نعمة في بعض الأحيان. والطفل في لهجتنا جاهل. ونحن الجهال كنا نعيش هذه النعمة، نعمة اللا أدري. كبرت قليلاً وانشغلت بأسئلة ممنوعة. ربما لم أكن في حاجة إلى إجابات لها بقدر ما كنت في حاجة إلى لفظ السؤال والتحرر منه». (ص 37) ولكن هذه التساؤلات كانت تقمع على كل صعيد: في البيت والمدرسة وربما الشارع أيضاً. هذا الطفل الذي كبر وشكل بطل الرواية الرئيس هو رمز للمثقف والفنان الذي يسأل حول كل شيء، يزعجه الواقع، ويوتره المستقبل. هذا الشغف بالسؤال وقلق التفكير، سيكون نتاجه لاريب في استشراف المستقبل الذي تجسد في الرواية، هذه الرواية التي تجسد وظيفة الفن الحقيقي: قراءة الحاضر واستشراف المستقبل. ولذا كانت رؤاها بين واقع حصل أو يحصل فعلاً، وبين مستقبل متخيل، لكنه غير منفصل عن الواقع.
ولم تنفرد الرواية وحدها بقلق السؤال، بل يشرك الكاتب معها أوجه الفن الأخرى كالشعر والتمثيل، وكأنه يؤكد أن وجه الفن الحقيقي هو في قراءة الواقع واستشراف الآتي.
ففي مقدمة الرواية مقولة لفؤادة (إحدى شخصيات مسلسل كويتي قديم)، تتنبأ فيها بالآتي: «أنا التاريخ كله، وأحذركم من الآن، الفئران آتية، احموا الناس من الطاعون!». (ص 8).
وهذا ما تستشرفه الرواية في أفقها المستقبلي، مستقبل موجع للكويت بل للأفق العربي كله، حيث تغدو الكويت ساحة احتشاد وصراع طائفي ومذهبي وفكري وديني، ونار وإرهاب لا يبقي ولا يذر. هذا هو الطاعون الذي تنبأت به فؤادة، التي تحول اسمها لاسم جمعية انضم إليها أبطال الرواية.
طاعون الحرب، طاعون الطائفية، طاعون المذهبية، هي نتاج الفئران التي تكاثرت بإهمال دون رقابة ولا متابعة ولا مراجعة: «الفئران لا تجرؤ على الاقتراب من قفص الدجاجات ما لم تكن إحدى بيضاتها مكسورة». (ص 54)
في ضوء هذه الرمزية تنمو صور واقعية هي المرموز له في الحقيقة: صور كانت في الاحتشاد ضد الآخر من الجنسية ذاتها، حيث المناوشات الطائفية بين الجيران، التي قد يظن أنها مشاجرات بسيطة، وحيث التصنيفات التي نراها في التفاصيل الصَّغيرة بين سكان الحي الواحد، والتعيير بالمذهب، والانتماء.
وحيث تدخلات الدولة المجاورة (إيران) التي أججت الطائفية وسعت بالفتنة بين شعوب الخليج: «الكويت كانت.. ما عادت.. قبل بعد.. منذ الثورة الإيرانية، ثم الحرب العراقية». هذه هي البيضات المكسورة التي دخلت منها الفئران، حيث تفجر الطاعون في المستقبل، الطاعون الذي لم يبق ولم يذر.
على الصعيد الآخر نرى الأمر مغايراً عند بعض شخصيات الرواية من كبار السن، حيث التعايش بين الجارتين العجوزين حصة السنية وزينب الشيعية. وكأن الكاتب يوحي بأن سعة الأفق والقدرة على التعايش واحترام الآخر إنما هي جزء من تكوين الإِنسان الخليجي البسيط محدود التعليم والثقافة. وليس له علاقة بارتفاع مستوى الثقافة أو التعليم، هذا التدين الفطري النقي الذي يحترم إِنسانية الإِنسان وينتمي لوطنه ومواطنيه، هو الواقي على حد رؤية الكاتب.
وتلفت الرواية بين حين وآخر إلى القضية التي كان ينبغي أن يلتف حولها العرب جميعاً (فلسطين) حيث ينساها الجميع، وتذكرها الجارة العجوز (حصة): « عندما كان اليهودي بتلقين من أمي حصة يعني إسرائيلياً. عندما كانت إسرائيل بتلقين جمعي عامل كره مشتركاً». (ص 19) إن هذا الموقف يوحي من خلاله الكاتب بأن القضية الأساسية قد غابت وغطى عليها قضايا الاحتراب الطائفي الذي تغدو الكويت مسرحاً له في مستقبل متخيل. لتنتهي الرواية في أجواء عنيفة للغاية يموت فيها بعض أبطال الرواية نتيجة لهذا الاحتراب وهذا الصراع: صراع الهوية وصراع الطائفية وصراع المذهبية. وتأتي خاتمة الرواية متجسدة في مشهد عنيف، وسط ساحة الانفجارات والعنف، يركض بطل الرواية الذي تنتهي الرواية بدون أن نعرف اسمه، ومعه صديقه في تصوير بالغ التأثير :»أركض يسبقني أيوب. يركضون وراءنا تحرسهم الطيور السوداء تنشد نعيبها. يبطئ أيوب. يمسك بيدي. نركض سوياً. يصيح واحدنا بالآخر: اركض اركض اركض.
يركض أركض تحت سماء أتمنى سقوطها. قطرات على وجهي تدفعني أرفع رأسي عالياً أرى بين غيوم متفرقة نجم سهيل يبزغ في البعيد، وشهاباً يقطع الأفق». تأتي قيمة الوصف هنا في أجواء معتمة قاتمة مليئة بالرمز الموحي : اللون الأسود بتداعياته السلبية القارة في الأذهان، وطائر البوم الذي هو نذير شؤم وخراب في الثقافة العربية منذ القدم. ومع ذلك نلحظ استشراف المستقبل الآخر في صورة نجم سهيل والشهاب الذي يقطع الأفق. ضوء قادم بالأجمل ربما يأتي في مساحة ضئيلة للغاية في رواية كبيرة الحجم يستغرق جل حجمها صور الدمار والخراب.
إن هذه الرواية التي تسائل الهوية وتستشرف المستقبل لتضع أمام النقاد والمثقفين صورة جيل جديد شاب من الأدباء يفكر بصورة مغايرة، تستدعي الإصغاء لتشخيصهم الواقع ومتابعة هذا النتاج المهم، من منطلق وظيفة الإبداع ووظيفة النقد في الإسهام في معالجة مشاكل الواقع، والحفاظ على أمن المجتمعات ووحدتها الوطنية، فما تطرقه هذه الرواية أجراس إنذار بالغة الأهمية.
د. دوش بنت فلاح الدوسري - أستاذ مشارك في الأدب والنقد - جامعة الأميرة نورة - الرياض