فافرح، بأقصى ما استطعتَ من الهدوء،
لأنَّ موتاً طائشاً ضلَّ الطريق إليك
من فرط الزحام... وأجّلك
درويش
لم تعدنا الحياة يوماً بأن تكون عادلة، ولم توقع معنا عقداً بأن الغد سيكون كاليوم، وأن كل الطرقات ستنتهي بنا إلى حيث كنا نريد.
أبداً الحياة لم تفعل ذلك، لكنها في المقابل ورطتنا بالأمل.. الأمل هذا الذي يجعلنا نجترح البدايات كل مرة مؤمنين ودون وعد أيضاً بأن هذه المرة ستكون مختلفة، وأن حسابات الحقل هي ذاتها حسابات البيدر، ولنكتشف مرة أخرى أننا نكرر ذات العبث «السيزيفي»، وأن الحياة شيء مختلف جداً.
المؤمنون جداً يحتمون من هذا التيه بيقينهم، وبالتحلي بفضيلة الصبر، ووعد اليقين بما هو قادم ومنتظر هناك في الجانب الآخر من التل؛ ومن أجل ذلك يحتملون كل غصات الحياة كابتلاء مقرر، وكل الأمر بالنسبة لهم أنهم يُختبرون، وهم راضون بذلك جداً.
والفلاسفة تنجدهم الحكمة والوعي بالحياة التي يحاولون جاهدين القبض على سرها، كل من زاوية الرؤية ومن حيث يقبض على ذلك الجزء من فيل العميان القريب منه.. مدركين أن هذه ليست هي الحياة، وإنما هو الجزء الذي مسته أيديهم في عمائها الكبير «ومن واجب الفلسفة مساعدتنا على تأويل نوبات اليأس والرغبة الغامضة التي تعترينا، وبذلك تنقينا من النماذج الخاطئة للسعادة» هكذا قال أحدهم.
ولكن ما الذي يفعل من كان قدرهم أن يكونوا هم حطب الحياة ووقودها؟
أنا وأنت والسواد الأعظم من الناس هم هذا الحطب، وهم الجمع المفتقر لليقين المطلق، والفقير أيضاً لعزاءات الفلسفة التي تهب الحكمة والتبصر. وكيف ينجون من لا عدالتها بعد أن أوقعتهم في فخ الرغبات التي لولاها لتعذرت سيرورة الحياة؟ وفي المقابل، ضنت عليهم بالمكافآت التي تجعلها محتملة، وحالت بينهم وبين الرضا أو السلوان.
وأنا واحد من هؤلاء السواد من الناس الذين لم يمتلكوا إيمان الصالحين المطلق رغم أني أحاول جاهداً بكل اليقين، ولم ولن أمتلك حكمة الفلاسفة والحكماء التي تهبهم الحياة، وتجعلهم ينجون من فخ الأمل ومن النسخة المزورة للسعادة. وكل بضاعتي التمرد المتأخر، والصراخ في فضاءات المطلق، والحلم الذي ما عاد منجياً أبداً، ولم يتبق سوى السقوط في مذلة الهزيمة.
أنا واحد من كثير جداً وهبتهم الحياة أجنحة كبيرة، ثم نسيت أن تهبهم الفضاء المتاح لهذا الجناح. وما الذي يفعل الريش مجرداً من حنان السماوات ومن المتسع من الوعد ومن محطات الوصول؟
وسامحونا ونحن كلنا نصرخ.. نصرخ بكل فضاءات اللون وبالشعر والكتابة وبالغناء، وحتى بالحلم. وسامحونا إذا قلنا إننا نستحق ما هو أفضل، وإننا لن نسقط.. لن ننكسر، ولم تكن الهزيمة يوماً النهاية.. النهاية عندما يغادرنا الحب والحلم، فهل غادرا إذا صمتنا؟
ويا هذه الحياة، نعم.. أنت لم تعدينا بشيء، ولم تمنحينا وعداً بالسعادة، ولكن منذ متى اعتاد الأبناء إمضاء عقود مع الأمهات؟
- عمرو العامري