رمضان بن جريدي العنزي ">
كل الأنوار يحاول كارهو الحياة إطفاءها، وكل النوافذ المفتوحة يحاول كارهو الحياة إغلاقها، وكل الأنهار والغدران الجارية يحاول كارهو الحياة إيقافها، وكل الألوان البهية يحاول كارهو الحياة طمسها، وكل جماليات الحياة يحاول كارهو الحياة إلغاءها، لا يريدون الحياة كما أرادها الله جميلة حلوة زاهية راكضة، يريدون الحياة كلها لأجلهم ميتة، صنمية، جامدة، واقفة، لا يحلمون كما يحلم الناس، لأن أحلامهم ضائعة، وآمالهم تائهة، صدورهم ضيقة، قلوبهم حجر، عيونهم غائرة، ووجوههم بائسة، لا يحبون الورد وألوانه الزاهية، ولا الخميلة الخضراء، ويمقتون لعب الصغيرات مع الفراشات الباهرة، لكنهم يعشقون بطون النساء الضامرة، حنائهن، عيونهن، وشعورهن الثائرة، والحكايات الفارغة، والقصائد الركيكة الباهتة، يحبون خلع الأشجار القديمة، والرسم بالأحمر، والألوان الداجية، لا يحبون البحر وزرقته النافرة، ولا ضوء القناديل، ولا إشارة المنارات للسفن العابرة، حتى الزنابق لا يحبها كارهو الحياة، لا يحبون الحدائق، ولا الشواطئ ولا الروابي، ولا الألحان الباهرة، ويكرهون طير اليمام، والحمائم، وشدو البلابل الحالمة، لكنهم في المقابل يحبون، لحن الغراب، وشكل البومة، ونقيق الضفادع، ويعشقون طريقة الثعالب، وقلق السناجب، وأرض المقابر، لا يريدنا كارهو الحياة أن نعيش كما أرادنا الله أن نعيش، ولا أن نحلم كما أرادنا الله أن نحلم، ولا أن نلبس كما أرادنا الله أن نلبس، ولا أن نسكن كما أرادنا الله أن نسكن، ولا أن نستحم كما نريد أن نستحم، ولا نقرأ جريدتنا المفضلة، ونشرب قهوتنا المفضلة، ونلبس ثوبنا المفضل، وهندامنا الذي نريد، ولا نسافر حين نريد أن نسافر، ولا نداعب أطفالنا كما نريد أن نداعب، ولا نذهب معهم نحو الشواطئ نلعب بالرمل معهم، نبني قلعة، نركض وراءهم، نجمع القواقع، نضحك معهم ونشاغب، ولا نبتسم كما نريد أن نبتسم، لأن الابتسام عندهم محرم، واللهو البريء عندهم محرم، وكل شيء ينبض بالبهاء والجمال والحياة محرم، هم لا يحبون الشمس، ويكرهون النهار، ويعشقون لون الظلام الدامس، كل فصول السنة عندهم سواء، لا فرق عندهم بين الربيع وبين الشتاء، ولا بين شقائق النعمان والهندباء، وكل الأشياء عندهم سواء، حتى أشياءهم لا تشبه الأشياء، الماء عندهم غير الماء، والنماء عندهم يعني الفناء، لا يفرقون بين البحر والنهر، والحر والقر، والسكر والمر، والخير والشر، والكر والفر، لافهمون معنى للزمن، ولا يجيدون التقويم الآلي، أو عقارب الساعة، وكيف يكون الارتقاء، ولا يفقهون شتلة الزرع، وكيف يكون الحرث، وحوض السمك، ولا عيون الماء في النوافير، ولا الجلوس على المقاعد، ولا طعم التوت، ولون العسل، وظل الدالية، ولا المناديل المعطرة، ويغضبون إذا ما رأوا ابتسامة تتبعها ابتسامة، أو علامة اندهاش تتبعها علامة، أو طفلة تحمل بين يديها دمية تشبه شكل البرتقالة، شتاؤهم ثقيل، وصيفهم كليل، وريحهم من شدة الغل بليل، لا يفرقون بين السناء والسناء، ولا بين المها والظباء، ولا بين الراحة والعناء، ولا بين شرفة الخراب، وشرفة النماء، ولا يعرفون الفرق بين الماء المقطر، وماء السماء، لا الأرض عندهم أرض، ولا السماء سماء، ولا الهوى هواء، ولا يفرقون بين حرف الجيم وحرف الحاء، أو بين الهمزة وحرف الهاء، أو الضجيج والإصغاء، أو الجلبة والضوضاء، ولا الصحاري والحدائق الغناء، يعشقون التقهقر والظلام والخراب والسواد والرماد والفناء، حتى الطوفان الكثيف يريدونه أن يخشى كل المدائن البيضاء على حد سواء، يا لتعس الأشقياء.