د. خيرية السقاف
أنزله الله رخاء يصيب به أي أرض، ويسقي به أي ضرع..
يغسل به الغابة في الأدغال، والشاطئ على الساحل، والجبل في الصحراء، والرمل في الشقوق
والنمل في الثقوب..
يطرق بلا استئذان، ويروي بلا حساب..
جعل مقره الأرض حيث يحط راحل يجده نبعا، وعينا، ونهرا، وبئرا..
حتى لمعته المغرية يخادعه بمثلها السراب..
فيه الحياة، وبه كل حي يحيا،
وكل ضامر يروى، وكل ضعيف يقوى..
عنه تنتشر البهجة، وتفرح النفوس، وتتقافز أجنحة القلوب
يهرع الناس لإمطاره فيرتوون من عطش، ويتبللون من جفاف،
ولصوت صبيبه من المزاريب يحنون، يحلمون، يبتكرون ويبدعون
مصدر إلهامهم، وتجمعهم، ودافع ترحلهم، ونزولهم، ومناخهم..!!
لا يتقون منه غير سيله الجارف، وإغراقه العاتي..
ابتكروا لحفظه، وعملوا على توفيره، وناشدوا بفوائده..
وتنازعوا على موارده، واتفقوا على مصادره، وسعوا إلى توفيره..
لكنه الهبة الإلهية الوحيدة التي لا ينبغي أن يُساوَم عليها بشر، ولا تربة,
ولا دابة على الأرض..!
العطاء الرباني الوحيد الذي لا ينبغي أن توضع قدرة المرء المالية من أجله على محك المقابل، أو العجز عنه..!!
ما تم مؤخرا في شأنه برفع تسعيرة استخدامه، يتنافى وطبيعة الماء، وحكمة هبته المتناهية ليكون حقا مشروعا بلا مقابل لكل من يدب فوق الأرض، وتسري في جسده الحياة
لأنه هو مصدر الحياة ، والأولى أن تبقى له هذه الأريحية الربانية..
الماء الآن، وإن عامله البشر كسلعة، لكن يليق به أن يكون السلعة الوحيدة التي تتوفر للإنسان في ضوء قدرة الشرائح الأكثر عددا، وهي الأكثر عجزا عن احتمال باهظ تسعيرة مقابله المادية.
البارحة هاتفتني سيدة تتخطى الخامسة والستين، مصابة بأمراض الفقد، والوحدة، والعجز، والفقر, تقطن في حجرة فوق عمارة تبرع بقيمة إيجارها لها نفر من الناس، حيث لا ولد لها، ولا زوج، ولا عائل إلا الله ثم الطيبين من البشر، تقول من بين دموعها: « كان الماء يصلني في الأعلى بمضخة يضعها صاحب العمارة، وعندما ارتفع سعر الماء أوقفها، وأخبرني أن أتولى أمر نفسي، انقطع وصول الماء إلي.. ؟! ما أفعل، ولا قدرة لي لا جسديا لجلبه من الأسفل بحمل آنياته، ولا مال لدي لابتاعه كل يوم.. أو أدفعه لصاحب العمارة ليضخه لي»..!!
وكم من هذه السيدة، وكم..؟!
ربما كان ينبغي قبل أن تقرر جهة المسؤولية في شأن الماء ما قررت، أن تدرس كل التدابير قبل التنفيذ، وأن تلم بكل الحالات، بل تعمل على التوعية لا على «العقوبة»!!.
لتصل التوعية إلى ما في السوق من وسائل استخدامه، وأجهزته، وبالتفاهم مع وزارة التجارة لإيقاف استيراد ما يساعد على الصرف منها, كذلك إلى ما عليه أحوال الناس وأساليب استهلاكهم لتغيره.
إن هناك من دعا لحفر الآبار، ونسي تكلفتها، ونسي أن ليس كل شرائح المجتمع تملك أرضا لحفر بئر فيها، وإلا فلتهدم كل العمائر، والبيوت لإعادة ترتيب نظام بنائها، لتوافق احتياجات وصول الماء إليها بالطريقة التي توفر في استهلاكه، وليطلب من الجميع التكافل مع الجميع لتضخ آبارهم لجيرانهم من غير المقتدرين عليها..!
مثل الماء بوصفه حيويا وملزما للمعاش يحتاج أمره للخطو في تؤدة، وتفكر، وحذر، واستشعار آراء المجتمع وشرائحه قبل أي إجراء في شأنه. لكن قد حصل، وفي انتظار ما سيتم تراجعا محمودا. من أجل كل الناس، أما المقتدر ماديا منهم فلا حاجة له لأن يبدد ثانية من تفكيره في شأن الماء، أسرف فيه، أو لم يسرف فلا ما يقلقه، أو يرهقه، كمن يبيت على صدى قطراته، وشبح فاتورة وسيلة حياته..!!