في عام 1989هـ كانت الصورة الذهنية التي أحملها عن جامعة الملك سعود تنحصر فقط في مجسم الكتاب الذي يقبع في مدخل الجامعة، بالإضافة إلى تلك المسطحات الخضراء داخل الحرم الجامعي - عندما كان ذلك المكان كائناً حياً - يعج بالناس، حيث التجسيد الواضح في علاقة الإنسان بالمكان، تلك العلاقة التي انتهت مع بداية الطفرة الخرسانية للمباني الجامعية، واستقلال الجامعة «عمرانياً» عن المجتمع المحيط وانفصالها عن جسد المدينة.
اليوم الأول في الجامعة ارتبط وجدانياً بصوت المياه المنبعثة من أرضية ذلك البهو العملاق، كان إحساساً عميقاً بالمكان لشاب لازال مكون شخصيته الأساسي أخلاقيات طالب الثانوية النجيب الباحث عن المستقبل، في تلك الفترة كان القلق والخوف يسيطر على حالة الفوضى التي كانت تعيشها عملية القبول والتسجيل في الجامعة كنتاج طبيعي لحقبة «تقليدية» مرت.
لم تكن ثقافة التعريف بالجامعات وكلياتها وتخصصاتها متاحة حينها بمثل ما هي عليه الآن، في نموذج التسجيل كانت كلية العمارة والتخطيط - التي سمعت باسمها لأول مرة آنذاك - هي الخيار الأخير، كانت تمثل لي مغامرة كبيرة، ولم يدر في خلدي أن تلك المغامرة ستكون هي المستقبل الجميل في مسيرتي العلمية والعملية، في اختبار القدرات طلب منا أن نرسم مشروعاً من خيالنا، حينها لم استطيع أن أكوّن فكرة حاضرة مقتبسة من المحيط العمراني الذي أعيش فيه ولم استوعب ذلك الإرث العمراني الذي كان يحيط بي، لم أجد أمامي حينها سوى جبل وشجرة وجدول ماء في برهان أن ثمة جيلاً بأكمله نشأ تحت مظلة تعليم تقليدي بحت يعتمد على التلقين والحفظ وتقييد الحريات الإبداعية.
اليوم ورغم أن أدوات التوعية والتعريف بالتخصصات الجامعية باتت أكثر تقنية وتطوراً، إلا أن الصورة لازالت مبهمة أمام الطلاب فيما يتعلق بتخصص «التراث العمراني» الذي تارة يكون في أروقة كلية العمارة والتخطيط وتارة أخرى يظهر في أروقة كليات السياحة والاثار أو غيرها، الاختلاف بين الكليتين ظاهر في تركيز الأولى على المسار الهندسي وفي الثانية على مسار إدارة المحتوى، وفي الحالتين يبقى خريج هذين القسمين في منطقة رمادية وغير واضحة في مواجهته للعمل الميداني، وهل نحن بحاجة إلى معماري مؤهل بخبرة إدارية أم لتراثي مؤهل بخبرة هندسية؟ وماذا عن حاجتنا لمخطط عمراني قادر على إدارة مواقع التراث العمراني حضرياً والتخطيط لها؟. وهل هذا الخريج سيكون مهندساً ام معمارياً ام مخططاً أم اثارياً أم تراثياً أم إدارياً؟. ثمة خلل هنا بحاجة إلى مراجعة وتقييم لمخرجات هذا التخصص.
جدلية كبيرة تقودني إلى تذكر حلقة نقاش منذ سنوات عن دراسة تأسيس مسار لتنسيق المواقع في كليات العمارة والتخطيط، وحينها علق أحد الأساتذة بطرافة أن خريج هذا القسم سيكون «جنايني» أي منسق حدائق «بلهجته المصرية».
التجربة العملية تقول إن خريجي أقسام العمارة وأقسام التراث لازالوا بحاجة إلى تعزيز قدراتهم ومهاراتهم في تخصص التراث العمراني بصورته العملية، ليكونوا ممارسين قادرين على استيعاب هذه المنظومة وحصولهم على الرخصة المهنية التي تمكنهم من ذلك. ما أود قوله إن الممارسة الحقلية في التراث العمراني «عمل مُضنٍ» و»تخصص دقيق» يتطلب من ممارسيه مؤهلات فنية وإدارية وتنظيمية عالية المستوى، الأمر الذي يجدر بالجامعات عمل مراجعة شاملة لهذا التخصص المهم وتحديد مساراته ومخرجاته بكل دقة وبما يخدم سوق العمل بالشراكة مع القطاعات المعنية بهذا الحقل.
المهندس/ بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط العمراني وإدارة المدن