القرآن الكريم من بلاغته وإعجازه أنه يخاطب كل فئة بما يناسب تفكيرها واستيعابها، ويستثير كوامن المواهب في جانب التأمل والتفكر، ومن فضل الله على عباده أن القرآن قد نزل بهذه المنقبة {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. وبما أن الإنسان لا يؤمن إلا بما يراه من الماديات خاطبه الله بما يناسب منطقه. وهذا من لطف الله بعباده، وإلا بأي حق وأي منطق هذا الذي يجعل الإنسان يتكبر على خالقه ويتعالى عليه وهو من أضعف مخلوقاته وأعجزها، ويطالب بالأدلة المادية حتى يؤمن. وهو مع كل الأدلة والحقائق المادية قد يكفر بآيات الله ويجحد بها، وهذا الأمر يدل على تعطل الجانب الروحي لديه، كما يؤدي كذلك إلى سعار المادة، فلا ترى له إلا قلبا قد صيغ من مادة حجرية أو حديدية.
ومن الأمثلة على ذلك قوله سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (8)}، وحيث إن من خصائص المادة أنها ترى بالعين ويستطيع أن يحسها الإنسان بحواسه المختلفة. قال الله سبحانه لهم ألا تروا إلى الأرزاق التي يخرجها لكم من الأرض التي تروها بأعينكم وتحسوها بحواسكم وهي تأتي على هيئة أزواج بعضها يحمل لقاح الذكر والآخر الأنثى وهذا من أسرار استمرارية الإنتاج.
إذا ما هذا التكوين في حبة القمح الذي يجعلها تكون بهذه الهيئة. إن ما يقوم به الإنسان هو غرس حبة القمح تحت الأرض، وقد يسقيها بالماء وقد ينتظر المطر حتى ينزل عليها فينبتها، فكيف استطاعت هذه الحبة أن تخرج لنا هذا الإنتاج الكبير من القمح؟ ثم لماذا لم يخرج من المكونات الموجودة في حبة القمح غير تلك التي موجودة في غيرها، فكل حبة لها مكوناتها وخصائصها التي لا تختلط بغيرها. من هو الذي يضبط هذا الخلق بهذه الدقة المتناهية؟
إن الماديات تقول للكافر كيف تكفر بكتاب الله وتتهمه بالخلط والغلط بعد كل هذه الأدلة. فالله جل جلاله الذي أحكم ما يخرج من الأرض من الزرع فهو يخاطبك بمنطق الرأفة والرحمة التي كتبها على نفسه إذ دعاك إلى منهجه وبين لك سبل السعادة التي ترتقي بها وليكون قبولك منحة من الله وقلبك بين إصبعين من أصابعه، فإذا دعاك إلى الحق فأنت تحظى بطريقين شريفين، طريق المادة الماثلة للعيان أمامك، فنم قرير العين فإن حبة القمح التي غرستها لن تنبت لك فولا أو عدسا، فهي أمينة على النوع وقس على ذلك جميع الأشياء التي في عالمك، واعلم أن كلامه أيضا لن يزيف لك واقعا ولا وعدا لتحرم من صائغ شرابه وطيب عاقبته.
وهي دعوة للإنسان إلى أن يسلك الطريق الذي بينه الله له في هذه الحياة الدنيا فهو سبحانه أعلم بما يصلح حياة البشر، فإذا أمر الله العبد بأمر فليس له إلا أن يأتمر، وإذا نهى عن نهي فليس له إلا أن يذعن، لأن الخالق الضابط لهذا الكون هو أعلم بما يقيم هذه الحياة، فالصانع أعلم بما ينفع المصنوع، فإذا رأينا بأعيننا ولمسنا بأيدينا هذا الإتقان في إحياء الأرض وإنبات الزرع، فمن باب أولى أن نستقيم لربنا كي يحيي سبحانه قلوبنا ويزرع الخير فيها فنرى ثمرته في أعمالنا وأقوالنا.
إبراهيم الأخضر بن علي القيّم - شيخ القراء بالمسجد النبوي