ياسر صالح البهيجان
مفهوم الأبوّة في الثقافة العربيّة لا يكاد ينفكّ عن سمة التملُّك المطلقة، وتتجلى تشكلات التسليع الأبوي في ظاهرة العنوسة وعضل الفتيات عن الزواج، إذ تجترّ الثقافة حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»، لتعزز موقفها التعسفي استناداً على تفسير سطحيّ يتنافى مع نصوصٍ شرعيّة أخرى تكفل للأبناء حقوقهم، وتحثّ على إسقاط ولاية الأب حال ثبوت عضله، إلا أن الثقافة اعتادت على مبدأ الانتقائيّة واجتزاء النصّ وتحريف معناه لتعزيز مفاهيم جاهليّة كانت تجيز للآباء دفن بناتهم وهنّ على قيد الحياة.
ظاهرة العنوسة امتداد لسلوكيّات وأد الفتيات وإن تغيّرت طريقة الوأد إلا أنها تظل سمة مشتركة فيهما، والثقافة استخدمت كعادتها كافّة الحيل لتحويل القتل المباشر والمُعلن كما في الأنموذج الجاهلي إلى قتل أشد خطورة وأكثر استتاراً وقدرة على التخفّي والمتمثل في حرمان الفتاة من الزواج، والحرمان هنا ليس حرماناً من متعة حياتيّة فحسب، إن ما هو منع لامتداد النسل وهنا يظهر القتل بشقّه المباشر مرة أخرى، فالعضل هو قتل لطفل لم يجد رحماً لينمو داخله، أو هو وأد لطفل كان سيرى النور لو تزوّجت أمّه.
وإشكاليّة العضل الكبرى هي أنها تتخفّى تحت مفهوم (حرص الأب)، وبحثه عن الرجل الأكفأ للارتباط بابنته، ولن يأتي ذلك الرجل إطلاقاً؛ لأنه شخصّ هلاميّ لا تتواءم مواصفاته مع مواصفات الرجال الأسوياء، هو شخصيّة مخترعة في ذهن الأب الذي يعاني من حالة تشوّه معرفيّ جعلته يُخضع أبناءه لمبدأ التسليع وسط مباركة ثقافيّة بذلك الصنيع.
والثقافة بأنساقها المضمرة تسعى إلى تأصيل ظاهرة العضل لتكون قيمة ثقافيّة، وتتمكن حينها من أن ترسّخ في ذهنيّة الآباء مقولة: «إن لم تعضل بناتك فلست أباً صالحاً»، ليرتبط هنا مصطلح العضل بقيمة الشّرف، وتلتزم المجتمعات العربيّة الحديثة الموقف الجاهلي تجاه الأنثى التي كانت تُقتل بحجة احتماليّة ارتكابها للخطيئة في موقف يكشف عن عقليّة ذكوريّة مأزومة تستبق فعل العقاب قبل وقوع المعاقَب بالخطأ المقرون بتشكلات العار في ذهنيّة الرجل العربي.
هل يمكن أن يوصف الذكر مهما بلغت دونيّة أفعاله بالعار؟ سؤال يمسّ جوهر الأنساق المضمرة في المدوّنة الثقافيّة العربية، إذ في تعاطيها مع الرجل تضع بينه وبين العار حجاباً بوصفها لسلوكية بأنه سلوك قد يجلب العار، أمّا في تعاملها مع الأنثى فإنها تجعل العار ملاصقاً لها ومستمراً معها ويطال جوهر وجودها وكينونتها ولا خلاص منه إلا بموتها.
ثنائيّة (الشرف/ العار) وإن بدت مستترة في المجتمعات الحديثة، إلا أنها لا تزال تلمز الأنثى من حين لآخر في تشكلات أكثر وضوحاً دون أن تفرَق بين بيئة متديّنة أو أقل تديناً، أو متعلمة أو أميّة؛ لأن الثقافة بحيلها متعالية على الظروف الاجتماعيّة الطارئة، وتمتلك سطوة تفوق سطوة ما هو مقدسّ؛ بل إن لديها القدرة على توجيه العقول لفهم النصوص الدينيّة فهما يتناسب مع المقاصد الثقافيّة السلبيّة وليس المقاصد الشرعيّة السامية حتى ليصبح الموروث الثقافي أكثر تأثيراً وتمسكاً من الموروث الديني.
المجتمعات المتقدّمة تنبهت مبكراً لأثر الأنساق الثقافيّة المضمرة في التعامل مع الأنثى، واتجهت إلى سنّ القوانين الصارمة للحفاظ على حقوقها لكيلا تجعل الثقافة الذكوريّة هي المتحكّم بمكون رئيس من مكونات المجتمع، ونحن بأمسّ الحاجة إلى قوانين وتشريعات أكثر وضوحاً وضبطاً لقضيّة عضل الفتيات والقضايا الأخرى التي تعاني منها المرأة العربية.