وصلنا مدينة جيزان العاصمة الإدارية لمنطقة جازان حوالي الساعة الرابعة والنصف عصراً واتجهنا مباشرةً لموقع حجز الركاب والمركبات لتأكيد حجزنا والسيارة بالعبارة التي ستنقلنا لجزيرة فرسان يوم غد إن شاء الله... بعدها اتجهنا إلى آخر منطقة ساحلية طبيعية توجد فيها المسطحات الطينية وأشجار المانجروف في جيزان بالمقرب من جامعة جيزان بعد أن ردمت معظم هذه البيئات على حساب التطور العمراني، وكما أشرت في الجزء الأول بأن بيئة المسطحات الطينية هي من أهم البيئات البحرية والتي تعتمد عليها الكثير من الكائنات البحرية، وقد أشارت عدد من الدراسات بمناطق أخرى بالعالم بأن تأثر هذه المناطق أو اختفائها يؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على حياة الإنسان بتلك المنطقة، فهذه المنطقة تعتمد عليها ثلث أنواع الأسماك وعليه فإن تأثرها سوف يؤثر على الثروة السمكية من ناحية الكم وأيضاً من ناحية السعر والذي ارتفع بشكل كبير خلال الخمس سنوات الماضية، ناهيك عن التأثير النفسي للصيادين بالمنطقة وزيادة العاطلين منهم خاصة مع وجود شركات الصيد التي تمتلك سفناً كبيرة تستطيع أن تصل إلى مناطق بعيدة بالبحر. ولا يقتصر التأثير من اختفاء المسطحات الطينية على الإنسان لكن أيضاً على الطيور المهاجرة والتي تلعب دوراً مهماً في تزويد البيئة البحرية بالمواد العضوية اللازمة لحياة البلانكتون والذي يقوم من خلال عملية البناء الضوئي بإنتاج الأكسجين، والمهم لحياة الإنسان والحيوان والكائنات البحرية.
عندها سألني إبني سلطان كيف يمكن للطيور أن تتأثر؟ فيمكنها أن تذهب لمنطقة أخرى! نظرت إليه حينها وأخبرته يا ولدي إن للطيور المهاجرة استراتيجيات محددة للتنقل خلال هجرتها فهي تتوقف في مواقع محددة آمنة تعتمد عليها للتزود بالغذاء خلال هجرتها، وقد لوحظ أن الطيور المائية بشكل خاص تستخدم أحد من الطرق التالية كإستراتيجية للتنقل بين مناطق تعشيشها والمناطق التي تقضي فيها فترة خارج موسم التكاثر، وهذه الطرق يمكن تقسيمها إلى ثلاث طرق: الأولى تعرف بالنط (Hopping) وهي التحرك لمسافات قصيرة حيث تقوم الطيور بالتوقف بعدد من المواقع تبعد مسافات قصيرة بين مئات الكيلومترات والألف كيلومتر، والطيور التي من هذه النوعية لا تحتاج لتخزين كمية كبيرة من الدهون ولكنها تقوم بالتغذي لتعبئة حاجتها للتنقل للمنطقة التالية، هذه الطيور تحتاج إلى مواقع عديدة للتوقف، أما المجموعة الثانية والتي تعرف بالقفز (Skipping) وهي ذات الحركة المتوسطة وتتراوح المسافة بين كل نقطة وأخرى يتوقف بها بين 1200-2000 كيلومتر وهذه تحتاج إلى مناطق أقل للتغذية والراحة خلال رحلتها. أما الأخيرة فتعرف بالوثب (Jumping) وهذه التي تطير بين مواقع تبعد عن بعضها 3000-5000 كيلومتر وربما أكثر بدون توقف وهذه تحتاج لتخزين كمية كبيرة من الدهون خلال رحلتها، وبعض هذه الطيور ربما تطير من مناطق تكاثرها إلى المناطق التي تقضي فيها فترة خارج موسم التكاثر وبدون توقف، وهذا الطيران بشكل متواصل يفقد الطائر 40 % من وزنه وهذا يعني أنه عندما يصل لمناطق الراحة يجب أن تكون بها كمية غذاء كبيرة وهذه تتوفر في المسطحات الطينية بالمنطقة الساحلية، لكن ردم السواحل يؤدي إلى تأثر هذه الطيور، ويمكن أن نشبه ما يحصل بحركة المسافر والذي يسير بسيارته لا يتوقف إلا بمحطة على بعد 400كيلومتر وعندما يصل يجد أن المحطة مغلقة أو لا يوجد بنزين بها أو اختفت، فماذا يكون مصيره؟
مع اقتراب وقت الغروب وسقوط الشمس خلف البحر الأزرق تحركت بنا السيارة إلى أقرب مكان للشقق الفندقية لنبيت ليلتنا فيه، وكم كان ذلك شاقاً فقد مررنا على أكثر من خمسة نزل كلها لديها أماكن فارغة لكن حسب تصنيفها لنا أننا عزابية حقيقة أحرجنا الوضع فنحن نسير طوال اليوم ومعنا أطفالنا ومرهقين حقاً وهذا ما جعل أحدهم يدلنا على أحد أصحاب الشقق المفروشة الذي يقبل العزابية والذي دخلناها حوالي الساعة العاشرة مساءاً ليدلف كل منا إلى فراشة لنغط في نوم عميق لم أشعر إلا بصوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر عندها قمت وأيقظت الأولاد وأخي أبو عمران لنصلي الصبح ونتحرك بعدها إلى موقع العبارة لتبدأ رحلة بحرية لجزر فرسان بالعبارات الجديدة والتي وفرتها حكومتنا الرشيدة لمواطنيها لتسهيل تناقلاتهم فهذه الرحلة التي كنا نقطعها بالعبارات القديمة في ثلاث ساعات قطعناها في ساعة واحدة فقط بفضل من الله ونعمة وحقيقة فإنه بالرغم الحرب الدائرة في اليمن وما يقوم به أعداء الأمة على حدود وطننا الغالي فالجميع يعمل بأمن وأمان فهذا التاجر يحمل بضاعته ليبيعها في فرسان وذلك العامل يحمل عدته ليذهب ليكمل عمله والجميع هنا فرح مستبشر ونحن معهم نشعر بعز وحب هذا الوطن الغالي على قلوبنا وقلوب المقيمين فيه، انطلقت بنا العبارة من ميناء جيزان تحمل معنا أحلامنا بمشاهدة طيور بحرية جديدة نغازل بها السعادة والترفيه لأولادنا، ولإيصال المتعة لهم من خلال النظر لما تحمله أرض الوطن من جمال للطبيعة وكنوز فطرية، وما تحويه من تنوع بالطيور حبا الله بها هذه الأرض الطيبة حفظها الله وأدام عليها أمنها وأمانها.
وصلنا جزيرة فرسان عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً، وبالرغم الحركة لخروج السيارات والركاب من العبارة إلا أن عيوننا على الشاطئ المجاور للميناء والذي كان يعج بأنواع من الطيور المائية والبحرية ومن بينها النورس أبيض العين وهو من الطيور المتوطنة في البحر الأحمر وخليج عدن وهو من النوارس الجميلة بمناقيرها الحمراء ذات الطرف الأسود، وأرجلها الصفراء، وأهم صفة لهذه الطيور والتي جاء اسمها هو البياض ذو الشكل الهلالي حول العين، وقد لاحظنا مرافقة طيور يافعة من هذه النوارس ربما من فراخ هذا العام، فالنورس أبيض العين يضع بيضه على الجزر الرملية وأحياناً الصخرية المرجانية، وتبدأ الفراخ بالطيور ومغادرة مناطق التعشيش مع منتصف شهر سبتمبر. ومن النوارس الأخرى التي شاهدناها النورس الأسحم والذي يعرف عند الصيادين بالبحر الأحمر بالعجام، وقد تذكرت وأنا أنظر إليه أهجوزة يرددها الأطفال بمنطقة فرسان والتي تقول
يا عجامة هبي هبي ... سلمي لي على ربي
وابويه مسافر مكة ... جاب لي زنبيل كعكة
قسّمته حبة حبة ... والحبة تملي القفة
والقفة تملي الصندوق ... والصندوق بلا مفتاح
والمفتاح عند الحداد ... والحداد يشا لبن
واللبن عند البقر...والبقر يشون حشيش
والحشيش تحت الجبل...والجبل يشا مطر
والمطر عند ربي
الحقيقة أن منظر هذه التجمعات من الطيور المائية أبهر أولادنا وجعلهم ينظرون إليها وهم في شغف للتعرف على طيور أخرى، فكانت أولى محطاتنا على جزيرة فرسان منطقة أشجار الشورى القريبة من ميناء فرسان حيث توقفنا لنشاهد طائر العقاب النساري وهو يقوم بصيد السمك والحقيقة أن منظره كان مهيباً فكان طيرانها ونزوله السريع ليمسك السمك شيء جميل لازال الأولاد يذكرونه كل يوم، ويذكرون كيف كان ينزل رجليه بالماء ليمسك بمخالبه القوية صيده من السمك ليحملها بعيداً ليقف ويأكلها فوق صخرة مرجانية بين أشجار الشورى. ومن الطيور الأخرى التي شاهدناها بمنطقة أشجار الشورى بالجزيرة البلشون الجبار وهو من أكبر البلاشين بالعالم ويوجد بالمملكة فقط بالمنطقة الساحلية بالجنوب الغربي للمملكة وكان منظره جميلاً وهو يقف ينتظر فريسته ليرسل منقاره كالرمح ليخترقها، فسبحان الخالق.
كان الجميع سعيداً بما يرى من الطيور فالكل يشاهد ويتأمل هذه الطيور حول منطقة أشجار الشورى فهذا صهيب سعيد بمشاهدة طيور الحنكور ... والذي يكنيها بطيور الضب بألوانها الأبيض والأسود وهي تصداد السرطانات وتكسرها بمناقيرها القوية، وأبو عمران يراقب البلشون أخضر الظهر وهو يقف ينتظر اقتراب السمكة منه لصيدها وأنا وولداي ننظر إلى بلشون الصخور وهو يجري مرة إلى اليمن وتارة إلى اليسار لحصر السمك في منطقة معينة قبل أن يتغدى عليها هو ومجموعة معه.
مكثنا بهذا المكان حوالي الساعة قبل أن نتحرك لنتوقف قرب الدوار المؤدي لوسط المدينة وكان عليها طيور البجع الوردية الظهر تقف مسترخيةً تنظر إلينا بشيء من عدم المبالاة وقد استغليناها فرصة لأخذ بعض الصور لها، مع العلم أن جزيرة فرسان هي المنطقة الوحيدة التي تعشش فيها هذه الطيور وذلك على أشجار القندل بهذه الجزيرة. بعدها تحركنا متجهين إلى نزل للشقق المفروشة بوسط فرسان لنضع أمتعتنا فيه ونخرج بعدها متجهين إلى موقف القوارب بالميناء للتفاهم معه لنقلنا غداً لبعض الجزر القريبة لمشاهدة المزيد من الطيور البحرية في أرض الوطن.
بالرغم من ارتفاع درجة الحرارة في وقت الظهيرة إلا أننا والأولاد لازلنا نرغب في معرفة ومشاهدة المزيد من الطيور والمواقع على هذه الجزيرة من أرض الوطن، ولتحقيق ذلك أشار علي أخي عبدالله أن نمر ولو من على بعد لبعض المواقع الأثرية والتي يزخر بها هذا الأرخبيل، وكانت أول وقفة لنا أمام مبني أثري يعرف بمنزل الرفاعي والذي يعد بحق تحفة في مجال الفن المعماري لما عليه من نقوش وجمال في التصميم، وقفنا أمام هذا المنزل صامتين سارحين بمخيلتنا عن ساكني هذا الدار وكيف كانت الحياة في ذلك الوقت، فالنقوش والتصميم تعكس الثراء والترف على هذه الجزيرة المرجانية. تجولت ببصري لأرى الأولاد فلمحت علامات الدهشة والرغبة لمعرفة المزيد وقبل أن ينطق أحدهم بادرتهم قائلاً .. إن هذا المنزل كان لأحد كبار تجار اللؤلؤ ويعرف بالشيخ أحمد منور رفاعي، وقد عرفت فرسان باتصالها قديماً تجارياً بتجار اللؤلؤ بالخليج العربي خاصة مملكة البحرين ويدل على ذلك مسميات القرى بفرسان فيفها المحرق والقصار وهي أيضاً أسماء لمناطق بمملكة البحرين. انتقلنا بعدها من منزل الرفاعي بوسط مدينة فرسان إلى موقع القلعة العثمانية، وهي المواقع الأثرية الأخرى بجزيرة فرسان تقع في شمال فرسان وذلك بين فرسان وقرية المسيلة، ويمكن مشاهدتها عن بعد فهي في موقع مرتفع يطل على عموم بلدة فرسان، ومبنية من الحجارة والجص الموجودة خاماته بكثرة في جزيرة فرسان وسقفه مصنوع من جريد النخيل الموضوعة على أعمدة من قضبان سكة حديد.
لا أدري كم مر علينا من الوقت ونحن داخل القلعة العثمانية قبل أن يرن الهاتف الجوال...إنه أبو يزيد من سكان جزيرة فرسان والذي رتب لنا لرؤية الغزال الفرساني، وقد جاء صوته متحدثاً بلهجة فرسانية جميلة يطلب مقابلتنا قبل الذهاب إلى عصراً لمنطقة وادي مطر لمشاهدة الغزلان الفرسانية، واتفقنا على ملاقاته بالفندق الذي نقيم فيه وسط جزيرة فرسان، وبسرعة اتجهنا للفندق لنجد أن أبا يزيد قد وصل للفندق قبلنا وأعد مائدة تزخر بأنواع المأكولات البحرية وخبز الدخن الساخن ليسطر لنا لوحة من الكرم الفرساني...وقفنا حائرين أمام هذه المفاجئة ما لبث أن كسر خجلنا كلمات الترحيب وجلوس الأولاد على المائدة فقد أخذ منهم الجوع وحرارة الشمس معظم قواهم فلم نملك إلا أن حمدنا الله وشكرناه وشكرنا أخونا أبو يزيد على هذه المفاجئة الجميلة وحقيقة لم أذق في حياتي طعماً للسمك كالذي ذقته على هذه المائدة وحقيقة لازال طعمه محفوراً في ذاكراتي وفي لساني أتذكره عند كل وجبة سمك أكلها فأحمد الله وأشكره. بعد الوجبة الدسمة نزل علينا سلطان النوم فسلمناه أنفسنا بدون مقاومة تذكر فالتجوال تحت حرارة الشمس طوال الصباح وبعد الظهر سلب منا كل قوانا وجاءت المائدة الفرسانية لتجعل لتلك القيلولة طُعْماً لأجسادنا المتعبة لنستسلم لسلطان النوم نحلم بطيور فرسان وغزلان فرسان.
أ. د. محمد بن يسلم شبراق - عميد شئون المكتبات بجامعة الطائف - مستشار غير متفرغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية