السوق المحلية بحاجة لجهة منظمة تضخ الأخبار الاقتصادية بعيدًا عن التأويلات السلبية ">
إعداد - وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية بـ«الجزيرة»:
مع إعلان وزارة المالية الأرقام الرسمية لموازنة المملكة لعام 2016، التي أطلقت معها مرحلة جديدة، تُعرف بـ «مرحلة كفاءة الإنفاق»، الآن وبعد مرور 87 يومًا على تدشين هذه المرحلة كيف يراها المستهلكون والمستثمرون؟ وكيف يراها القطاع الخاص الذي بدأت تعول عليه الدولة في لعب دور حيوي خلال هذه المرحلة؟
موازنة اللا توسع.. اللا انكماش
موازنة عام 2016م هي موازنة من نوع خاص، لا نستطيع وصفها بأنها موازنة توسع، كما أنها لا تمثل ميزانية انكماش بالمعنى المتعارف عليه بهذا الحجم من الإنفاق المقدر لعام 2016 بنحو 840 مليار ريال مقارنة بمستوى 860 مليار ريال في العام السابق 2015.
إذن، فنحن أمام مستوى يقل بشكل طفيف عن مستوى العام السابق، إلا أن قياس حدود التوسع والانكماش لا يقتصر على تقدير مستوى الإنفاق فقط، ولكن يرتبط بتقديرات الإيرادات التي أظهرت انحسارًا متوقعًا في 2016 عنها في 2015، حتى بلغت التوقعات نحو 514 مليار ريال. ما يهمنا أنه ظهرت فجوة بين الانكسار الطفيف لمستوى الإنفاق والانكسار الشديد لمستوى الإيرادات كما يظهرها الشكل البياني.
ملامسة الأسعار العالمية للسعر المرجعي
تشير التقديرات إلى أن الموازنة السعودية لعام 2016م بنيت على أساس تقديرات لسعر مرجعي للنفط في حدود 26 دولارًا للبرميل. وتشير الأرقام الفعلية للأسعار العالمية لخام برنت إلى أن أدنى مستوى سجلته هو 27 دولارًا الذي انحدرت إليه بداية فبراير الماضي، أي أن الأسعار العالمية سجلت لأول مرة تراجعًا لامس السعر المرجعي للنفط؛ وهو ما أثار قلقًا شديدًا للمستثمرين بالسوق المحلية.
إذن، نحن في محض مرحلة جديدة، يمكن أن ينكسر فيها السعر العالمي لمستويات تزيد على السعر المرجعي المقدر عليه الإيرادات الحكومية؛ وبالتالي نتوقع عجزًا أعلى من مستوى العجز المقدر بالموازنة.
كفاءة الإنفاق.. التزامن والترشيد
مرحلة كفاءة الإنفاق هي مرحلة ضرورية ومهمة، ليس في الدول التي يقل فيها مستوى الإنفاق المقدر، وإنما حتى في الدول التي تزداد فيها توسعات الإنفاق. فنحن أمام ترشيد الهدر وترشيد سلوكيات الأطراف التي تتولى عملية الإنفاق.
البعض يتساءل حاليًا: لماذا نتحدث عن الترشيد؟ الترشيد المقصود هنا أولاً ليس هو ترشيد لإنفاق ضروري، وإنما هو ترشيد في نفقات حكومية غير ضرورية، أو لنقل ترشيد في أوجه دعم حكومي. فدعم الحكومة للطاقة أو الوقود أو البنزين أو الكهرباء أو الغاز كلها أوجه دعم، قد تستغل بطرق خاطئة، تتسبب في إهدار القيمة الحقيقية التي دعمت من أجلها.
ورغم مطالبتنا الدائمة بضرورة ترشيد هذا الدعم منذ سنوات ماضية، وتقنينه لضمان حسن وكفاءة استغلاله اقتصاديًّا وسوقيًّا، إلا أن هذا الترشيد لم يأتِ في فترات كان يمكن أن يحدث تأثيرًا إيجابيًّا أعلى، وكان يمكن أن يصادف قبولاً أكبر. فالترشيد كان سيمثل شكلاً نموذجيًّا ومثاليًّا لو تم طرحه في موازنة عام 2012 عندما كانت الإيرادات الحكومية عند أعلى مستوياتها (1240 مليار ريال)، وكان الإنفاق الحكومي لا يشوبه التراجع (853 مليار ريال).
إن مآل القلق في الأسواق الآن هو عدم توجُّه الإنفاق الحكومي لتوسع جديد في عام 2016م بالتزامن مع تراجع نفسي قبل أن يكون ماديًّا في الإيرادات الحكومية المتوقعة لعام 2016م؛ لذلك تدعو وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية بـ»الجزيرة» إلى التدرج في ترشيد الإنفاق، والابتعاد كلية عن التزامن في طرح إجراءات ترشيد الإنفاق في آن واحد.
المشتري الأكبر في السوق.. لم يتراجع
مشكلة السوق المحلية الآن نفسية أكثر منها مادية أو اقتصادية؛ فالحكومة تعلن بدون ترتيبات إعلامية إجراءات جديدة من يوم لآخر، كثير منها تنطلق من ترشيد الإنفاق، كما تعلن بشفافية اتخاذها خطوات أحيانًا لدعم فئة أو شريحة، أو مساندة شريحة معينة، إلا أن هذه الأخبار قد تفسَّر بشكل مختلف حقيقة.
المهم أن المشتري الأكبر بالسوق السعودية هو الحكومة، والحكومة الآن لديها ترتيبات اقتصادية للترشيد وكفاءة الإنفاق. ويأتي هذا الترتيب في ظل انحسار المستوى الكلي لهذا الإنفاق؛ لذلك، فإن الترشيد يضفي تراجعًا نفسيًّا أكبر من تراجع المستوى الكلي للإنفاق. والمشتري الأكبر يلقي بتأثيراته الكبرى على قطاع البناء والتشييد والمقاولات. ويُعتبر القطاع القائد للقطاع الخاص عمومًا. وإذا شئنا لجزمنا بأن قطاع البناء والتشييد يتم تصميم خطة مشروعاته الكبرى مع الحكومة على المدى المتوسط. وهذه المشروعات هي مشروعات معتمدة ومتفق عليها منذ سنوات؛ وبالتالي فهي مشروعات مستمرة، والضخ الحكومي فيها مستمر، مثل مشروعات القطاع والمترو والطرق والمدن الجديدة.. وهي لم تتوقف حتى مع إعلان ترشيد الإنفاق؛ لأنها مشروعات حيوية، ولا تزال الدولة مستمرة في زخم الإنفاق عليها.
إذن، قطاع عريض من مشروعات البناء والتشييد مستمر بشكل منظم، ولم يتغير زخمه عن السنوات السابقة.
استمرار العجز الإسكاني.. وعدم تحرك القطاع الخاص
رغم أن قطاع البناء والتشييد يشكو خلال الشهور الأخيرة من عدم توسعات الإنفاق الحكومي إلا أنه لا يزال لديه فرصة ذهبية لطالما تنادي بها الدولة؛ لكي يتولى فيها دور الريادة منفردًا أو متعاونًا مع الحكومة في تغطية فجوة إسكانية تناهز المليون وحدة سكنية.
هذه الفجوة هي فجوة طلب استهلاكي متسعة، وتحتاج لمنتجات تتواكب مع قدرات المستهلكين من السعوديين، وتحتاج لبرامج تمويل عقارية، تتناسب مع رغباتهم وخصائصهم. والدولة لا تزال توجه دعمها لإقراض وتمويل شرائح معينة من المستهلكين تنطبق عليهم الاشتراطات. إذن، يوجد طلب ولا يوجد له معروض كافٍ. وكان يمكن لقطاع البناء والتشييد أن يستغل هذا الطلب في تعويض أي فتور جزئي في مشروعات الدولة.. بل حتى جزء من هذا الطلب الإسكاني هو طلب حكومي. وينبغي أن نعترف بأن جزءًا من مشكلة قطاع البناء والتشييد والمقاولات الآن هي إصراره على التعامل مع المشتري الحكومي دونما التوجُّه للمشتري الاستهلاكي الفردي. وتمثل هذه النقطة مثار التحول المطلوب تحفيزه لدى القطاع الخاص عمومًا.
ضرورة وجود متحدث اقتصادي رسمي لتهدئة السوق
السوق السعودية الآن تتحرك عشوائيًّا بناء على تطورات الأوضاع اليومية للقرارات والإجراءات التي تُتخذ من قِبل الحكومة أو الوزارات منفردة، أو إجراءات تصدر من قِبل جهات أو أطراف أو شركات ذات قوة وثقل اقتصادي.. إلا أن السوق أصبحت شيئًا فشيئًا حساسة لتلقي الأخبار السلبية أكثر منها الإيجابية. فالعشوائية تسير ضد تهدئة السوق نتيجة تلقف الأخبار السلبية وتفسيراتها ربما الأكثر سلبية.. من هنا، فالسوق أحوج ما تكون إلى جهة منظمة لضخ الأخبار الاقتصادية بشكل منظم بعيدًا عن التأويلات السلبية نتيجة الحالة النفسية المرتبطة بتقديرات لاحقة عن أسعار النفط.