د. جاسر الحربش
كبرت وفهمت أكثر. كنت فيما مضى أخاف من الاستعمار والصهيونية والغزو الخارجي، إلى آخر الألغام التي كان يبثها التثقيف الإعلامي العربي بأنواعه المختلفه في طريقي. بعد كل هذه السنوات الطوال أدركت أن الموضوع كان للتخويف فقط ولم تمارسه تلك القوى الاستعمارية والصهيونية ومؤامرات الغزو الخارجي، بل كان من إنتاج مصالح تحالفات انتهازية ظلت تلعق في مصاصة القضية الفلسطينية حتى ذابت وتلاشت، لتستبدل بها مصاصة الهوية والأصالة والقيم الدينية وما إلى ذلك. صرت أتمنى المواجهة وجهاً لوجه بعدو واضح، لأن ذلك قد يلم الأشتات ويذيب النعرات والعصبيات والمذهبيات ويزيح المتربحين من التخويف عن أكتاف الشعوب العربية، ويجعلها تواجه الحقائق بمنطلقات جديدة لا تترك مجالاً للمتاجرات بالشعارات ولا للتحالفات المصلحية القائمة على عنصريات الأزمنة القديمة.
الآن أدركت أن الخطر على ما يسمى الثوابت (الجغرافيا واللغة والدين الأصلي قبل المذاهب) كان دائماً موجوداً في الحقيقة من الداخل العربي وليس من خارجه، وكان ماثلاً للأذهان والعقول والعيون، لكن الشعارات الإعلامية وسذاجة العواطف حالت دون رؤيته وإدراكه وفهمه.
كيف يكون الخطر في الداخل بينما العدو الأقوى سطوة والأكثر ثراءً والأفضل تنظيماً في الخارج؟. هذا السؤال يحتاج إلى سؤال معاكس: أليست أفضل أمانيك تجاه خصومك هي أن يسلطهم الله على بعض وأن يفعلوا ذلك طوعاً، بحسابات تخصهم وحدهم ولمصالح استحواذية مذهبية مناطقية قبلية؟.
كانت نعمة إلهية تاريخية لا دخل للعرب فيها حين أنهكت دول الاستعمار الحقيقي بعضها في الحربين العالميتين، فانفتحت فرصة الصدفة أمام الشعوب المستعمرة للتحرر وتكوين دولها القطرية. ماذا فعلت بعدئذ حكومات الدول القطرية؟. انتقلت آليات السيطرة من المتجبر الأجنبي إلى المتجبرين المحليين، وتكونت حكومات قطرية لا تحمل من المشاريع سوى الشعارات، وما عدا ذلك توجس وارتياب وتحاسد متبادل. تكونت حكومات متعادية على مستوى الزعامات وأئمة المذاهب ونخب رؤوس الأموال، فسممت عقول الشعوب بالقوميات والمذاهب والانتماءات الحزبية داخل كل دولة قطرية ضد الإخوة على الطرف الآخر من الحدود.
تدريجياً حل الإفلاس المتوقع بكل دولة شعارات وسقطت، حتى وصلت الأمور الآن إلى المتاجرة بشعار دولة الخلافة الإسلامية الكبرى، بما يمثله ذلك من خرافة لا يصدقها سوى الأغبياء والمجانين. المحصلة الآن هي انتشار الحروب الأهلية المذهبية، والمذهبية المذهبية داخل كل المذاهب، والاستعانة بالتكفير والاستحلال وبرمجة الأطفال على قتل الأهل بادعاء إعلاء كلمة الله، مما أدى إلى استنفار كل أديان وعقائد وحكومات الأرض لحماية أنفسهم من عصابات مجنونة لم تترك أحداً ًلم تهدده بالذبح بحد السكين، فأصبح الدين نفسه في دائرة الاتهام.
على العاقل أن يفكر: ما الذي أوصل العرب إلى هذا الدرك الأسفل من انعدام الأمل والأمن والمستقبل والتوجس المتبادل ومعاداة كل الأديان والقوميات؟. أهي قوى الاستعمار الغربي؟ أهو النظام الإيراني؟ أهو ضعف الإيمان؟ أهو التغريب؟. لا، ليس كذلك، فما هو سوى أن العرب وقعوا في شرور حكوماتهم وأئمة مذاهبهم ونخبهم المالية والتجارية حين رهنوا عقولهم للعواطف والأحلام وللمتاجرين بالتاريخ والدين والدماء.