د. فهد بن علي العليان
كثيراً ما توقفت وتوقف غيري عند تكريم العلماء والباحثين بعد رحيلهم، وأذكر أنني استشهدت بمقولة الأديب التركي « لماذا نؤجل بث آرائنا ومشاعرنا تجاه رموزنا العلمية والثقافية ثم نطلقها دفعة واحدة بعد وفاتهم؟ هل ليضيفها الورثة إلى التركة؟ ومتى يستبين من نحب الحب قبل فوات الوقت، وانطفاء الدرب؟.»
وحسناً فعلت إدارة مكتبة الملك عبدالعزيز العامة عندما قررت أن تكرم أحد رموز العلم والمعرفة وعالم الآثار الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الأنصاري حيث كان مساء الاثنين 27 جمادى الأولى 1437هـ الموافق 7 مارس 2016م مساءً مختلفاً وليلة عنوانها الوفاء. كان صاحبكم قريباً جداً من الحدث منذ بدايته ترتيباً وتنسيقاً مع المتحدثين وإدارة للندوة. اقترب موعد بدء الندوة عن الدكتور لأنصاري - الذي التقيته في مناسبات المكتبة المختلفة، لكنني لم أعرفه عن قرب ولم أعرف عنه الكثير إلا في تلك الليلة - وكان الترتيب أن يكون حديثاً عن الأنصاري في غيابه، لكن المفاجأة السارة والجميلة حضوره قبل بدئها وسط طلابه ومحبيه، حينها رأيت أخلاق العالم ووفاء الطلاب.
بدأت التقديم والمقدمة وأنا لا أدري ماذا أقول في حضور أصحاب الكلمة واللغة والبيان، ثم أطلقت كلماتي لأقول للحاضرين والحاضرات «إنها ليلة الوفاء وفيها نتعرف جميعاً على رحلة علم وأستاذ بذل وقته وجهده للعلم والمعرفة»، ليأتي بعد ذلك دور معالي الأستاذ فيصل بن عبدالرحمن بن معمر مسطراً كلمات تقدير ووفاء وعرفان ومحبة لأستاذه الذي عرفه في ( سدوس) وهو لما يزل صغيراً حين قدم إليها في رحلة بحثية علمية مع مجموعة من طلابه. في هذه اللحظات كنت أنظر إلى الدكتور الأنصاري في وسط الصف الأول يومئ برأسه، وكنت أشعر أنه يريد أن ينطق فرحاً وسروراً وحبوراً بما يراه ويسمعه.
أعود للندوة حيث كانت البداية مع د. سعد الراشد، تلميذه ورفيق دربه وصديق عائلته، الذي تحدث حديث المحب والمقدر مثل الابن مع أبيه، وفي ثنايا حديثه عن أستاذه اختلطت مشاعره ورق صوته حينما تذكر وذكر أيامه ولياليه مع أحد أعلام الآثار في المملكة. أنهى حديثه وهو لم يرد أن ينهيه، يريد أن يبث مشاعره ويقول كل شيء عن أستاذه. لكنه الوقت!
التقطت المذياع وقلت «إذا كنا جميعاً - ونحن كذلك - معجبين بالأستاذ الدكتور عبدالرحمن الأنصاري، فإن العرب تقول كل فتاة بأبيها معجبة ... المذياع الآن عند سعادة الدكتورة لبنى عبدالرحمن الأنصاري عضو مجلس الشورى، ولا لوم عليها فيما تقوله»، ثم انطلقت تتحدث عن والدها بدءاً من نشأته في المدينة المنورة برعاية جدها وأسرته. كنت أشعر وهي تتحدث أننا أمام قبطان سفينة يعرف طريقه جيداً، كانت تقول كلماتها وهي تشعر بفخر وشموخ، تريد أن تصل بنا إلى الشاطئ، وكنت أخشى أن يصيبنا بلل دمعة تفر من هنا أو هناك، وكنت أقول في داخلي: يحق لها أن تفخر وتفاخر، فليت الآباء كلهم مثل رعاية وحرص وعناية الدكتور عبدالرحمن الأنصاري، حيث فتح لأبنائه وبناته الأبواب للعلم والمعرفة.
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال
دعوني أقول لكم: إن لبنى الأنصاري حلقت بنا في فضاءات جميلة مع رحلة والدها الذي قضى أشهراً في (الفاو) إخلاصاً لعلمه ومهنته وعمله، مروراً بأصحابه وزملائه وطلابه. حكت لبنى الحكاية بحضور والدتها وعائلتها وتوقفت مع تصفيقات حارة من الحاضرين والحاضرات جميعاً، وحسبها أن كفي عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز صفقتا إعجاباً بما قالته حروفها ونطق به فؤادها. هدأ التصفيق فقلت «كنت أظن الدكتورة لبنى طبيبة في التخصص وإذ بها طبيبة في الكلام كذلك». ثم ينتقل المذياع للدكتور علي الغبان للحديث عن جائزة عبدالرحمن الأنصاري لخدمة آثار المملكة العربية السعودية التي أطلقها الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. وهي بذاتها شهادة تقدير وعرفان لهذا العالم الذي بذل وقته وجهده مخلصاً لوطنه وعلمه.
أشعر أن المساحة ضاقت، ولن تفي لأقول لكم الكلمات والعبارات التي أطلقها معالي الدكتور أحمد الضبيب عن رفيق دربه، ولا ما قاله الدكتور أحمد الزيلعي عن غبطته للدكتور سعد الراشد نظراً لقربه الشديد جداً من المحتفى به، ولا ما ذكره محمد الأسمري من ذكريات لم تخل من طرفة وطرافة، لا أستطيع أن أحيط بما قاله الكثير الكثير من المداخلين والمداخلات. بقي أن أقول لكم: إنها بحق ليلة وفاء، بل هي ليلة الوفاء لأحد رجالات ذلك الجيل الذي قضى وقته طلباً في العلم وإخلاصاً للعمل، وهم جميعاً يستحقون التقدير والوفاء. ألا ليت أبناء هذا الجيل يدرسون سيرة هذا الرجل وأمثاله ليقارنوا بين أفعالهم وفعلهم. أتوقف، والجميع يترقب وينتظر الكتاب التي ستصدره المكتبة عن الأنصاري.
الوفاء طبع.