د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
أمام العرب في عصرهم الراهن طريق ذات ثلاث شعب، إحداهما اللغة الفصيحة، والثانية اللهجات العامية، والثالثة اللغات الأجنبية، هكذا يقدم أستاذنا الدكتور أحمد بن محمد الضبيب في كتابه (العرب والخيار اللغوي: دراسات ومقالات في الواقع اللغوي العربي المعاصر) رؤيته الكاشفة لهذا الواقع، فيجلي المشكلة ويظهرها للعيان في سلسلة من الدراسات والمقالات، وهذا الكشف رسالة اضطلع بها أستاذنا وشغلت طائفة كبيرة من وقته وجهده، فهو يزاول ذلك في كل محفل لغوي يشهده، ولو جمعت أقواله في ذلك لسودت أسفارًا كثيرة؛ ولكنه في هذا الكتاب الجليل يزوي جوانب في غاية الأهمية لهذه المشكلة العربية المزمنة التي لا تختلف عن مشكلاتهم الأخرى في اضطراب معالجاتها والتخبط في إدارتها.
أحسن أستاذنا البدء في دراسات هذا الكتاب بدراسة (لغة الطفل العربي في ظل العولمة)؛ لأن الطفل هو نواة المجتمع وهو أمل مستقبله، فبيّن مخاطر العولمة على لغة هذا الطفل وما جرّه الاستعمار الغربي في بعض البلاد العربية من تغيير لغة المجتمع، وهو ما ترك آثاره الظاهرة حتى بعد مكافحته والخلوص منه، عرض لعلاقة الطفل بلغته الأم وعلاقته باللغة الأجنبية، وناقش متى تدرس اللغة الأجنبية مبينًا الآثار السيئة لتعليم الطفل اللغة الأجنبية في سن مبكرة، وختم دراسته بجملة نافعة من الاقتراحات من وضع سياسة لغوية، وتمكين للطفل من لغته، وإعداد المعلمين، وتأخير لتعليم اللغة الأجنبية، واستفادة من التقنية الحديثة.
وينتقل من لغة الطفل إلى لغة المجتمع في دراسة (اللغة العربية والمجتمع تأملات في الأزمة والمصير)، وأما الأزمة فتظهر في ثلاثة أبعاد، أولها البعد الوجداني الذي آسفه تآكله نحو الفصحى بغلبة العامية في وسائل الإعلام والكتابة، واستفحال اللغة الأجنبية بين الناس الخاصة والعامة. وأما البعد الثاني فهو التربوي الذي بيّن ضعفه وإخفاقه في تعليم الفصحى وإقامة حاجز بينها وبين الطلاب ودعا إلى كسر هذا الحاجز، وأما البعد الثالث فالبعد الاقتصادي الذي بيّن فيه كيف نحيّت العربية عن إدارة الأعمال واستبدت اللغات الأجنبية بذلك، وهو أمر عاد على ترك العناية بتحصيلها. وبعد أن فصّل ملامح الأزمة بأبعادها الثلاثة عاد إلى بيان مصير العربية الذي يمكن أن تؤول إليه، وبيّن أنّ أهم عاملين يفتان في عضد اللغة ومجتمعها التعدد اللهجي ومزاحمة اللغات الأجنبية، والتعدد اللغوي لا ضير فيه إن كان في مستوياته الدنيا، أي المسافة بينه وبين الفصيحة ضيقة؛ ولكنها متى اتسعت وعمّقت ونالت حاشية من الاستعمال كبيرة ربما أدّي ذلك إلى الانقسام والانحلال على نحو ما آلت إليه اللغة اللاتينية التي تفرق شملها في لغات متعددات وطوي أمرها ونسي ذكرها. واللغات الأجنبية قد تستولي على المجتمع حتى تنسيه لغته الأصلية وتبعده عن جذوره بما تحتمل من ثقافة خاصة، ويفقد بهذا هويته ويصير إلى حاشية من حواشي ثقافة أخرى. وأما تجاوز هذه الأزمة فيكون في وضع سياسة لغوية تراعي البعد الثقافي القومي والديني، واللغة هي مفتاح الثقافة العربية الإسلامية وعامل القوة الموحد لأبناء هذه الثقافة «كي يعبروا هذا العصر متحدين سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا، من أجل تحقيق طموحاتهم في التقدم والرخاء، في زمن لا مكان فيه إلا للأقوياء»(ص71). ويواصل أستاذنا حديثه عن أزمة اللغة العربية التي عالج جوانبها في دراسته السابقة؛ فهو يعود لمزيد من التفصيل عن (اللغة العربية وتحديات العصر)، فيبين أن من التحديات ما هو عام ومنها ما هو خاص، وبعد الإفاضة في شرح تلك التحديات دعا إلى الاقتداء بفرنسا التي جعلت تمكين لغتها جزءًا من قانونها، وبيّن أن الطريق قد تكون طويلة؛ ولكن ذلك يمكن أن يعالج بتكثيف العمل، ورعايته على جميع المستويات لوضع السياسات اللغوية وإحسان تنفيذها. وما عرض له أستاذنا من شأن اللغة الفرنسية أو غيرها هو جانب من جوانب ما تموج به الأرض من صراع لغوي أحسن أستاذنا إفراده بالدراسةفي (صراع اللغات في عصر العولمة وموقف اللغة العربية منه) الذي ابتدأ بالإشارة إلى كتاب (صدام الحضارات) لصامويل هنتنجتون، وهو كتاب يعبر عن الصدام والهيمنة وما نال لغات كثيرة في أرجاء العالم من اجتثاث، وذكر تأكيد الباحثين أن صدام الحضارات هو صدام لغوي، ومثل الأستاذ لهذا الصراع بأمثلة كثيرة ،كل ذلك ليمهد لما كان من شأن العربية وصراعها المرير مع ألوان الاستعمار الذي كاد يطمس معالمها في كثير من أرجاء البلاد العربية لولا نضال الشعوب المشرف المتيقظ، ولكن اليوم في عصر الهيمنة تعود المشكلة جذعة «فإذا كانت لغة المستعمر هي لغة الوظيفة والتجارة والسوق؛ فإن الإنسان العربي المعاصر محاط بظروف أشبه ما تكون بظروف عصور الاستعمار البائدة» (ص113)، وفي غياب سياسة لغوية قوامها النظر على أن اللغة أداة النهضة ووسيلة التفاهم المشترك بين أبناء الأمة فإن العربية مهددة بفقدان مزيد من مواقعها في حياتنا وسينال الفصحى مزيدٌ من الجفاء والهجر «ولسوف يرى الذين تنكروا لهذه اللغة من أهلها وفرّطوا في جنبها أيَّ منقلب ينقلبون»(ص115). ومثل هذا الصوت قد يساء فهمه وقد يجابه بمن يرى اللغات الأجنبية أنفع وأجدى وأجدر بالتعلم لمكانة تعبيرها المباشر عن العلوم والحضارة في مقابل عربيتنا المعبرة عن ثقافة صحراوية تجاوزها الزمن، ولعل مثل هذا الهاجس ما جعل أستاذنا يعقد دراسة يعالج فيها (واقع اللغة الأجنبية في التبادل الثقافي بيننا وبين الغرب) وحاول في دراسته بيان أن اللغات الأجنبية نافذة يُطلُّ منها على الآخر من غير تهوين من شأن هذه اللغات ولا دعوة لمقاطعتها، وهكذا كانت بداية العلاقة بها صحيحة بإنشاء مدرسة الألسن وتكثيف البعثات وازدهار الترجمة، وكان يؤمل أن تتوحد أقطار العرب بعد زوال الاستعمار؛ ولكن ذلك لم يتحقق لانحراف المسار بتعزيز لغة المستعمر وبسط نفوذها، ومع ذلك أخفقت تلك اللغات في مجال الاقتصاد أن تدخلنا عصر التقدم، وعم الإخفاق في المجالات الأدبية والتطبيقية من زراعة وهندسة وطب، وليست المشكلة في معرفة اللغة، بل سوء استعمال لها حيث جعلناها لغة علاقات عامة فلم ننقل بها خبرات الأمم نقلا من شأنه توطين العلم لينتج باللغة القومية إنتاجًا صحيحًا، ومع هذا الإخفاق ما زال ثمة من يدعو إلى مزيد من تمكين اللغات الأجنبية، فيدعو إلى تعليمها في المراحل الابتدائية، وهذا من شأنه مزاحمة اللغة الأم وبلبلة ذهن المتعلم، وإلى جانب ذلكجد فتورًا في الترجمة لا يواكب تسارع الإنجاز العالمي، وإنه من الجلي «أن تعاطينا مع اللغة الأجنبية تعليمًا واستعمالًا لم يصل بنا إلى الهدف المرجو من النهضة»(ص129)، وختم دراسته بما يمكن أن يكون مخرجًا، وهو استشعار الثقة بلغتنا، وتوظيف اللغات الأجنبية لتكون جسرا بين الثقافتين، وتكثيف الترجمة ضمن مشروع تكاملي للبلاد العربية لنقول «إننا وضعنا اللغة الأجنبية في موقعها الصحيح من حركة التثاقف الحضاري بيننا وبين الغرب» (ص130). وما سلف أمر مشروع لا محيد عنه؛ لأن (اللغة العربية لغة النهضة) وهي دراسة تحدث فيها عن مكوناتها الرئيسية التي تشكل الهُوية، وتحدث عن العربية التي تأبّت على القطرية والإقليمية، وكيف أن العربية استمرت مفهومة عبر القرون؛ فأبناؤنا يفهمون نصوص الشعر الجاهلي، أما بعض اللغات الأخرى فأهلها عميت عليهم نصوص لا يزيد عمرها على 400 عام، وبيّن كيف أدرك دعاة الإقليمية أهمية الفصحى في توحيد البلاد العربية فدعوا إلى محاربتها؛ ولكن أمة العرب محظوظة على كثرة مآسيها بهذه العربية الفصحى الموحِّدة بما تختزنه من ثقافة هي حصن الهوية الراسخ، وقد قويت لغة هذه الوحدة وكان يتوقع لهذه النهضة أن تواصل تقدمها بما هيئ لها من السبل أيام محمد علي الذي انتكس التوجه بعد رحيله، وكان المستعمر الساعي لهدم الفصيحة وتعزيز العامية، والمستعمر إن لم يفلح في تغيير لغة المجتمع فقد عمل على إبعاد العربية عن المجالات العلمية وترك العلم بيد اللغة الغازية، وهو أمر ثبت فشله في التحضر الحق، ولذلك علينا أن نغير خططنا بأن نركز على تعليم لغتنا، واستثمار ثقافتها، والاعتماد على الترجمة لتوطين العلوم وتجنب السلوك الاستهلاكي، وحان وقت مراجعة المواقف اللغوية والسياسات التربوية والثقافية، علينا أن تكون لدينا لغة موحدة منضبطة في التعليم تؤهلنا للارتباط الصحيح بالاقتصاد في عصر المعلوماتية، ووحدة الثقافة بالفصحى ميزة من الخطأ التفريط بها، وهذا لا يعني تجنب إتقان لغات أجنبية، بل علينا إتقانها من غير إحلالها محل اللغة الأم في التعليم؛ «فلتكن اللغة العربية أداتنا التي تقود إلى النهضة الحقيقية، ولتكن اللغة الأجنبية أداتنا التي تقود إلى التحديث لا إلى التغريب» (ص145)، ولكن هيهات ونحن أمام (تعجيم التعليم) وهي دراسة لحال التعليم في البلاد العربية. وتعجيمه «جعله أعجميًّا أجنبيًّا، تدرس مناهجه للطالب العربي بلغة أجنبية»(ص147)،بيّن في هذه الدراسة كيف يعمد الاستعمار إلى انتزاع اللغة القومية من أفواه الصغار لتختفي العلاقة بين الأجيال وإرثها الثقافي، والتعليم بالأجنبية مسخ للهوية، ثم إن تمكين اللغة الأجنبية أدّى إلى فتن عرقية وطائفية؛ إذ نُظر إلى العربية على أنها لغة العرب وحدهم، ونظر آخرون إلى أنها لغة المسلمين منهم، ولو أن حلول الأجنبية عاد على الأمة بالخير والصلاح لدل ذلك على صحة اتجاهها؛ ولكن من مُسخت لغته صار أكثر شعوب الأرض تخلفًا؛ لأن اللغة القومية سلاح إن أحسنْت استعماله انتصرت وإن أسأت «حاقت بك المشكلات»، كل العالم أدرك ذلك سوى العرب؛ فوزارة التربية سمحت للمدارس الأهلية أن تعلم بلغات أجنبية، والعربية هي من مقومات وجودنا المهمة التي يجب الحفاظ عليها، وهذه تجارتنا ومستشفياتنا وفنادقنا وجميع مواقع الوظائف العامة و الخاصة تدار بلغة أجنبية، ووزارة التعليم تشارك في ترسيخ هذا الوضع الشاذ، وكان عليها أن تكون حربًا على فشو اللغة الأجنبية، والداعون لتعجيم التعليم مخطئون وهم يحتجون بأهمية اللغات الأجنبية في التواصل العالمي والشبكي ويصفون المدافعين عن وجود العربية بالتقوقع وأنهم يريدون منع تعلم اللغات مطلقًا، وهو وهم إن لم يكن افتراء؛ فالمدافعون عن العربية يقرّون بأهمية تعلم اللغات الأجنبية. ومن معجّمي التعليم من يحتج بأن التعددية اللغوية من حق المواطن تأسيًا بالوضع في أمريكا غافلًا عن الاختلاف في الوضع، وهذه أوروبا احتفظت دولها بلغاتها القومية ولم تتحول إلى اللغة الإنجليزية، وهم يبذلون أموالًا طائلة في سبيل الحفاظ على لغاتهم؛ لأن «لغة التعليم في البلاد المتقدمة أمر سيادي لا يؤدَّى إلا بلغة الدولة الرسمية»(ص159)، وناقش موقف جامعة حائل الذي واجهت مشكلة في فرضها الإنجليزية لتعليم العلوم، ورأى أن تكون لغة التعليم بالعربية وأن تعلم الإنجليزية مادة واحدة مستمرة حتى تفي باحتياج الطالب بعد ذلك، واستغرب أن يُنظر إلى الدعوة لتمكين العربية وحبها على أنه مغالاة في حب الذات، فهل في صنيع دول أوروبا وغيرها من العالم تلك المغالاة، ومن حجج معجّمي التعليم أنّه معالجة لما يشهدونه من ضعف في تحصيل اللغة الأجنبية، غافلين عن أن الواجب أن يلتفتوا إلى ضعف تعليم العربية نفسها، ثم يلتفت إلى جانب مهم هو ما يسمى بالأنا اللغوي الذي يتعلق بالتنشئة الأولى، وهو ما فعله العرب القدماء حين احتكّوا بلغات غيرهم كانوا مسلحين بغيرتهعلى لغتهم وبثقتهم بها، وقد بينت الدراسات كيف جنى تعليم اللغة الأجنبية على اهتمام الصغار بالعربية، ومثّل لذلك بما بثّته قناة العربية عن ظاهرة العربيزي التي بينت مدى تنكر الشباب للفصحى، ويحتج دعاة التعجيم بالتعليم في لبنان غافلين عن اختلاف مكونات لبنان عن مكونات بلادنا، ومع ذلك قد جنى التعدد اللغوي على ذلك البلد حين جعل العربية، وهي اللغة الرسمية، في أدنى مستوياتها، إن التشبه بلبنان في خطر مستقبلي لا يعيه من يدعو إليه.
ويأتي القسم الثاني من كتاب أستاذنا ليعبر في مقالات زويت فيها مواضيع عرضت لها الدراسات السابقة، فهي تفصيل لمسائل جزئية، وعنواناتها بالغة الدلالة على مضامينها بما يغني عن عرض ذلك المضمون، فنجد مقالة (لا..لتعليم اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية)، ومقالة (لا...لتغيير لوحات السيارات)، ومقال فيه شيء من الطرافة وهو (بولات)، ومقال (موبايلي لماذا؟ يا اتحاد الاتصالات!!)، (واستعمال المفردات والتعبيرات الأجنبية: هل هو تلاقح حضاري أم استلاب؟)، ويأتي الختام بالمسك بمقال (نحو سياسة لغوية سعودية).
لقد أحسن أستاذنا افتتاح كتابه وختامه، وهو سلسلة جهادية أخذ نفسه بها وعرف بها، فلست أعرف أحدًا في مثل إصراره ومثابرته على الدفاع عن العربية والاستماتة في نصرتها، وهو لا يكتفي بالدراسات والمقالات والتعقيب المثمر في المؤتمرات والندوات، بل هو عضو فاعل في كثير من مجمعاتها ومؤسساتها المهمة وجمعياتها، فلا تجد مرفقًا يُعنى بالعربية إلا كان الدكتور أحمد بن محمد الضبيب حاضرًا فيه مشاركًا في فعالياته، وما نشْره معجم مطبوعات التراث الذي أتحف به المكتبة العربية إلا مثال على هذه العناية والتعلق الشديد بالعربية والدفاع عنها وتمكينها.