د.عبد الرحمن الحبيب
«المسخ» أشهر قصة خيالية حديثة كتبها فرانز كافكا قبل قرن، تقول: «استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة ضخمة..» جريجور بائع متجول بسيط وبائس يجوب المدن بشقاء يومي وأمنيات مستحيلة لتحسين وضعه..
يحاول الآن كحشرة النهوض من فراشه بأوجاع حادة من أطرافه المفصلية الحشرية، يستمع إلى الأصوات خلف الباب قلقة من تأخر نومه، ثم منزعجة منه.. وحين يحاول الرد عليهم بحشرجة غريبة وصوت غير بشري يعجز عن التواصل معهم، ينبذونه ويحتقرونه.. يختبئ عن الأعين، فهو حشرة، يصارع حالته المريرة غير قادر على النهوض.. في نهاية المطاف، ماذا يمكنه أن يفعل غير الموت؟ الانتحار هو الحل الوحيد الممكن..
جريجور شاهد على بدايات القرن العشرين التي أعقبها حربان عالميتان في عالم رأسمالي متوحش، يمثل حالة اغتراب على مستويات عدة.. اغتراب عن العمل والأسرة والمجتمع والجسد وحتى عن نفسه. فإذا كنت تسأل هل للدواعش في سوريا والعراق عقول يفكرون بها كي يدمروا حياتهم وحياة الآخرين، فعليك أن تسأل أي مقدرة لمن يعيشون في الجحيم على صنع الحياة؟ يصمدون تحت سقوف لا تؤويهم أو يهاجرون نحو بلدان ترفضهم أو يقاتلون الجميع.. خيار بين دمار وانتحار..
قلة توجهوا للعنف ليس فقط حاملين السلاح الحديث بل أسلحة قديمة من سكاكين وخناجر إمعاناً لرفض الجديد، وتبشيراً بالعودة للقديم حتى بأشكاله الوحشية، كذبح الأسرى وحرقهم وإغراقهم وبيع السبايا، وإيقاظ طائفية قديمة... إنه الحنين الفتَّاك إلى ماضٍ يتبخر سريعاً بتقنيات لا تقل فتكاً.. الحنين إلى تاريخ مات يترآى بالأحلام جميلاً.. ربما يعود بمعجزة.. حالة إنكار يسلكها المصدوم بداية الصدمة.. لكنها صدمات متتابعة تُحرض على عنف يتصاعد..
مهما قيل عن التشدد الديني فداعش لم يأت من حالة مستقرة زعزعها الفكر المتطرف أو الطائفية، بل جاء من ظلم فادح وفوضى عارمة اجتاحت أجزاء عدة من منطقتنا العربية كسوريا وليبيا واليمن وقبلها العراق والصومال.. حالة استياء وغضب، قد تؤدي بالأفراد والجماعات إلى الدخول في صراع مع النفس والآخرين يتوافق مع حدة الحالة..
منذ بداية صعود داعش واحتلاله الموصل لم يكن التوقع صعباً بأن مصيره الفشل الحتمي، إنما المحزن هو مقدار الضحايا والكوارث قبل أن يصل لنهايته المحتومة. لكن ماذا سيبقى منه وقد بدأ العد التنازلي له، وصار أغلب النقاشات يتمحور حول التساؤل عما بعد داعش.. البعض يرى أن القضاء على داعش سيؤدي إلى انحسار التطرف وبداية نهاية الإرهاب، معتبراً داعش هو المرض وليس عرضاً لمرض. يناقض هذا التصور من يتوقع بأننا سنواجه حالة أكثر داعشية مثلما أدى انحسار تنظيم القاعدة الإرهابي إلى ظهور داعش الأشد إرهاباً.. وبين هذين النقيضين تتنوع السيناريوهات المحتملة وفقاً للتطورات المتوقع حدوثها في المنطقة خاصة في سوريا..
إذا كان داعش عرضاً لمرضٍ، فلطالما أدى عرض المرض إلى مرض أشد فداحة.. والآثار الجانبية للعلة أحياناً تفوق آثارها الأساسية. فإذا كان القلق يؤدي إلى علة في القولون، فإن هذه العلة قد تؤدي إلى أعطال ببعض أعضاء الجسم.. ثم تتداخل العلل بعضها فوق بعض.. فبأيهما تبدأ بعلاج مشكلة القلق أم بعلاج علة القولون أم العلل الأخرى؟ وإذا كان دحر داعش يتطلب الوسائل كافة، فما هي الأولوية: عسكرية أم فكرية أم اقتصادية أم اجتماعية؟
إذا قلنا إنها عسكرية، فسقوط مدينة الرمادي العام الماضي بيد داعش يوضح أن الجيش جزء أساسي من المشكلة عندما أعطى القادة الفاسدون الأسلحة الأمريكية وأسرار الجيش لداعش مقابل المال مثلما حصل في الموصل (تقرير معهد تشاثام هاوس). بالمقابل الفساد المنتشر في الجيش العراقي عمل على تعزيز سلطة «الحشد الشعبي» الطائفي.. علة فوق علة حتى تراكمت العلل.
قوة داعش بنيت على أنقاض فشل ذريع سياسياً واجتماعياً في البيئة التي ظهر بها وتتطلب الهدم وبعده البناء، لكن النزاعات المتأججة امتدت إلى سوريا بحرب أهلية هي من أسوأ ما شهده العصر الحديث، واستقطبت شباباً غرَّاً من الأقطار كافة. داعش ناجح في الهدم لكنه غير قادر على البناء. أما إرهابه فهو يمثل حرباً نفسية ضد الآخرين، ولعبة معنوية لجذب العقول المتطرفة اليائسة التي تنمو في حالات الاضطراب الحادة عندما يشعر الناس بالإحباط والقهر وأن ليس لديهم ما يخسرونه فيجربوا حتى الجحيم..
قد ينتهي داعش قريباً، لكنه لا يعني بالضرورة نهاية القابلية له بصيغ أخرى، قد تكون أشد وطأة إذا استمرت البيئة الحاضنة على حالها ليس فقط من الناحية الأمنية بل أيضاً الاقتصادية والاجتماعية. عند الحديث عن تحرير الجيوش فينبغي أيضاً تحرير العقول؛ فقد كشف ما سمي «الربيع العربي» عن حالة خريفية في العقول.. قمع فكري في خطاب أغلب الحركات بما فيها التي يقال عنها معتدلة أو تنويرية حين ينفي بعضها بعضاً بلغة عنيفة. حتى عند سحق داعش فثمة «دويعش» صغير يظهر من مكامنه وينمو في خطابات كثير من التيارات المتخاصمة بالعالم العربي ليشكل حالة داعشية تمثل الخطر الأكبر على المدى البعيد..
أياً كانت الأسباب: نفسية، فكرية، اجتماعية، سياسية، فإن الحالة الداعشية قامت بأذى واسع بمجمل المنطقة العربية سواء من ناحية التدمير المباشر أو من ناحية استقطاب القوى الأجنبية التي تأتي بثمن باهظ علينا.. أو من ناحية تحفيز العقول السقيمة في الداخل. الرهان على الوعي الجديد الذي يمكن أن تفرزه وطأة هذا المرض كمناعة مضادة له.. عبر مواجهة التطرف الفكري بعقلانية موضوعية وليس بتطرف عاطفي مضاد.. نحن بحاجة فكرية لإصلاح العقول بحاجتنا الأمنية نفسها لمكافحة التنظيمات المتطرفة.. إنها المهمة الأصعب..
داعش كتنظيم سيسقط، لكن ماذا عن الحالة الداعشية في العقول!؟ ماذا عن تحسين البيئة الاجتماعية والاقتصادية..؟ الآن تلعب الدول الكبرى على ورقة داعش الجاذبة للتدخل كلٌّ لغرضه الخاص.. فإذا كانت الحلقة الأخيرة قد اقتربت في مسلسل الجذب الداعشي فهل سيكون ما بعد داعش أدعش أم أن الحالة وصلت إلى ذروتها ولم يعد بالإمكان أسوأ مما كان؟ انظر إلى البيئة الحاضنة، وأنت تحدد الإجابة..