عروبة المنيف
أصبحت بعض الواجبات الاجتماعية في بلدي عبئًا ثقيلاً؛ فعلى الرغم من أن مناسبة سعيدة «كالزفاف» هي بطبيعتها مناسبة «مفرحة» نجدها في مراسيمنا وطقوسنا «النسائية» تجلب العبء والتوتر والقلق..
.. سواء لأهل العروسين أو للمدعوين؛ فقد أصبحت تلك المحافل «قناة استنزافية» لا يستهان بها للطرفين، ويشمل ذلك الاستنزاف المادي والنفسي على حد سواء، وما لذلك الاستنزاف من تداعيات صحية واجتماعية سيئة.
إن انفتاح تلك «القناة الاستنزافية» على الراغبين في الزواج جعلهم يعزفون عنه؛ فتلك الخطوة تفوق إمكانياتهم المتاحة، أو تجعلهم يتوغلون «بنفق القروض المظلم» في سبيل إقامة محفل لن يرضي المدعوين على كل حال، سواء كان الزفاف مستوحى من طقوس «ألف ليلة وليلة»، أو كان متواضعًا، أو معتدلاً.. ففي جميع الأحوال لن يسلم «أهل العرس» من النقد الجارح، بدءًا من «ما يخافون الله» إذا كان هناك مبالغة في الإنفاق، وانتهاء بـ»لا يسوون عرس أزين» إذا اعتدلوا أو اقتصدوا في الإنفاق.. فالجمهور غير راضٍ على كل حال. ويندرج ذلك العبء والاستنزاف المالي على المدعوات، بدءًا من الفستان، مرورًا بالمجوهرات والإكسسوارات، وانتهاءً بالتسريحة مع المبالغة التي تفوق القدرة المادية للمدعوات أيضًا.
إن الاستنزاف النفسي والصحي لأهل العرس لا ينحصر على القلق والتوتر اللذين يسيطران عليهم طوال فترة التجهيزات للمناسبة من أجل إنجاح المحفل، بل يشمل طاقاتهم المهدرة والمستنزفة للظهور بمظهر لائق أمام المدعوات؛ ما يجعل همهم الوحيد «تبييض الوجه» أمامهم مع نسيان وتغافل أن تلك المناسبة هي «فرحهم» في المقام الأول، وليست مسألة «تبييض وجه» أمام الآخرين. فاختلاط المفاهيم يصبح هو السائد للأسف! ويتسلل الاستنزاف النفسي ليصيب المدعوات أيضًا؛ فليس من المتوقع أن تنتهي مراسم الحفل النسائية قبل ساعات الصباح الأولى؛ لتمتد إلى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا؛ ما يخلق توترًا قبل الذهاب إلى الحفل وبعده كذلك؛ فالبحث عن وسيلة لإيصال النساء إلى بيوتهن في ساعة متأخرة من الليل يصبح إشكالية، سواء كان من يقوم بهذه المهمة السائق، أو أحد الذكور في العائلة، وما يترتب على ذلك من إرباكات عائلية وهواجس أمنية.
إن السلوكيات الاجتماعية التي «طفرت» مع «الطفرات النفطية» قد آن لها أن تتغير، ليس فقط نتيجة تداعياتها السلبية على الصحة الجسمية والنفسية، وهدرها الجهد والوقت والمال، بل نتيجة للتغيرات الاقتصادية التي فرضت نفسها كواقع جديد علينا، ينبغي التأقلم معه، ومع الظروف المعيشية التي ستتأثر نتيجة لذلك التغيير. فثقافة الادخار والترشيد والوعي الاستهلاكي يجب أن تسود في المرحلة القادمة بين جميع الأطياف المجتمعية، وتبني حملات شعبية كعنوان «خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود» و»إذا كنت على البير اصرف بتدبير» و»وفر من شبعك لجوعك تسلم سؤال الناس وخضوعك».. وغيرها من حملات توعوية جاذبة، تتبناها الجهات الحكومية وغير الحكومية؛ فالأيام «غدارة» والدنيا «دوارة» والإنسان الواعي هو الذي يتعلم كيف ينفق ومتى ينفق ما يجعله أكثر كفاءة وقدرة على إدارة دخله وإنفاقه بشكل واعٍ؛ ما يضمن مستقبله ومستقبل أولاده. فالوجاهات الاجتماعية المترفة التي تُنفَق عليها الملايين لن تجلب سوى الفقر والفاقة والبكاء على الأطلال، فضلاً عن التبذير الذي لا يتوافق مع الأخلاقيات الفاضلة.
إن نظام «حفلات الزفاف» السائدة هذه الأيام وما ينتج منها من إسراف وتبذير لا حد له، وفوق طاقة الجميع، يتطلب تغييرًا في المفاهيم والمعتقدات الاجتماعية؛ حتى تتغير السلوكيات تباعًا؛ فكل الأموال المهدرة في تلك المحافل لم تستطع أن تُدخل البهجة والفرح في قلوب الطرفَيْن، سواء العروسان وأهلهما، أو المدعوات؛ فقد أصبح «البنادول» هو «الحلوى» المتداولة قبل الذهاب «للفرح» وبعده؛ وذلك نتيجة للإزعاج الذي يتلبسنا نحن المدعوات منذ دخولنا القاعة، سواء بسبب الموسيقى الصاخبة، أو بسبب صوت «الطقاقة» التي تستلم الآلاف المؤلفة مع ذائقة طربية معدومة في أغلب الأحوال.
لقد التقيت بأهالي الكثيرين، وبأزواج ممن اعتمدوا «حفلات الزواج العائلية»، وكانوا فرحين جدًّا بقرارهم هذا بعد الانتهاء من الحفل وقبله؛ فالزفاف هو فرحة العروسين وعائلاتهما، أما الغير فيأتي للتهنئة من باب المجاملة وما يمليه عليه الواجب الاجتماعي، أو قد يعتبره البعض كوسيلة لقضاء وقت ممتع!
ومن أجل تجاوز السلبيات التي تنشأ من تلك المحافل الممتدة إلى ساعات متأخرة من الليل يتوجب على الجهات المعنية أيضًا فرض أوقات محددة على تشغيل تلك الصالات المستأجَرة بحيث تبدأ في الساعة السابعة مساء، وتنتهي عند الثانية عشرة ليلاً كحد أقصى، مع وضع إرشادات وقواعد صارمة على مشغلي تلك الصالات بضرورة إنهاء المراسم في تلك الساعة من الليل.
لن تتغير العادات السائدة ما لم تتضافر الجهود في نشر التوعية، وفي فرض القوانين والضوابط اللازمة لتنظيم تلك المناسبات، التي أصبحت «عبئًا» لا «فرحًا».