د. عبد الرحمن الشبيلي
نموذج من المديرين قد يظن أنه رخوٌ وضعيف، فلما أصبح في موقع المسؤولية تبيّن أنه صنف من مدارس الإدارة، يمكن أن يحقق بالخلق الكريم، والمعاملة الحسنة والكلمة الطيبة، ما يعجز عنه المعروفون بالجسارة وبالترهيب، والإدارة بالأخلاق التي يعنيها المقال لا تتعارض مع ضرورات الحزم والنزاهة وأركان الأمانة الأخرى في الوظيفة العامة.
تخطر هذه الرؤية كلما برزت صورة أبي عبدالعزيز، الذي قدّر للكثيرين من رجال التربية والتعليم معرفته عن قرب في المواقع العديدة التي تولّاها، وآخرها موقعه الوظيفي والتعليمي أستاذاً، فوكيلاً، فمديراً لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العقود الثلاثة الأخيرة.
كُتب عنه القليل، لكن كل من تعامل معه يُجمع على أنه لا يعرف ارتقاء منصات الشهرة والبروز، وأن من صفاته الوسطية والتسامح في فكره الديني، والجودة في إنتاجه العلمي، والنزاهة المتناهية في إدارته، مع تنوّع معارفه وعلومه الحديثة التي يحيط بها، مما أوجد له محبة خاصة وتقديراً عالياً في قلوب زملائه وذويه، تبدوان جليَّاً في الثلوثية التي يدعو إلى إقامتها ابنه عبدالعزيز في أثناء صحة والده.
كان من أبرز ما يُذكر لتاريخ هذا الرجل حسن السّمت - عند تدرّجه العلمي والوظيفي في جامعة الإمام حتى أصبح على سدّة إدارتها وبخاصة عند إشرافه على مشروع مدينتها الجامعية بالرياض إبّان إدارة الدكتور عبدالله التركي - حسنُ تدبير الأموال والمساحات المخصصة للمشروع، وكفاية الإنجاز، وملاءمته للغرض، والإفادة من تجربة الجامعات التي سبقت، فظلّت شخصية د. الشبل ماثلة في أرجائه حتى اليوم رغم انقضاء ربع قرن على إنجازه بأكبر مقدار من الهدوء، وبأقل قدر من الضجيج الإعلامي.
ومع انشغاله بالعمل الإداري في الجامعة، فإنه لم يتخلّ عن مهنة التدريس فيها، وعن مناقشة أطروحات الدراسات العليا، وعن حضور الندوات العلمية، وعن الاهتمام بالتأليف والبحوث في مجال تخصصه (التاريخ الحديث) إذ كان قد حصل على الدكتوراه من جامعة الإسكندرية عام 1400 هـ /1980م وقد عكف على تحقيق مخطوطة المؤرخ محمد عمر الفاخري، من مؤرخي القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين (الثامن عشر الميلادي) التي غطّت فترة تقدر بخمسة قرون من تاريخ نجد والدولة السعودية، وبالأخص تلك التي انتهى عندها تاريخ أحمد المنقور وحتى بداية الدولة السعودية الأولى، كما عمل على تحقيق مخطوطتي المؤرّخين ابن ربيعة وابن عُبَّاد، وبلغ تعداد كتبه ستة، وعدداً من البحوث التاريخية والمراجعات والتعليقات، وهو يُعدّ من المؤرّخين المعتمدين في التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية، كما أنه شارك في عضوية مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز الذي يرأسه منذ عقدين الملك سلمان بن عبدالعزيز.
إن أبرز ما يتبادر إلى الذهن في الأجهزة الحكومية والشركات التي يتولّاها هذا الصنف من المديرين، هو خلوها من الشبهات، وهو أمر يكفي شهادة «حسن سيرة وسلوك» تعلّق على جبين المنشأة ويُطرّز بها تاريخها.
«الإدارة بالأخلاق» مدرسة لم تُدرس بعدُ، ولم تدخل ضمن نظريات العلوم الإدارية، مع أن لها مبادئ معروفة في القرآن والسنّة، وفي تطبيقات الخلفاء الراشدين ومن حذا حذوهم، وحريّ بجامعة الإمام أن يكون لها السبق في وضع الأسس لها حتى تكون مادة من المواد العلمية ضمن مناهجها.
تتواضع هذا السطور عن قدره في صدور عارفيه وزملائه وطلّابه، لكنها تتّسق مع نهجه، ولو كُتب مثل هذا المقال - على تواضعه - في حياته، لما ارتضى أن يُقال فيه، أكرمه الله بالأجر والمغفرة على ما قدّم من عمل، وما انتهجه وطبّقه من خُلق وخصال، وما تركه من أثر وسمعة مثالية علميّة وإدارية، فلقد حضر إلى الدنيا بهدوء، وأمضى حياته بصمت، ورحل عنها قرير العين في الدارين بإذن الله.