محمد آل الشيخ
في كثير من حواراتي مع بعض الفعاليات السعودية، ذات التوجه المتأسلم، عادة ما أطرح سؤالا فحواه: لماذ أنتم ضد (التغريب) في حين أن الحضارة التي تشرئب لها أعناق شعوب الأرض اليوم هي في حقيقتها وجوهرها غربية المنشأ؟.. فلا أجد إلا إجابات تدور وتحورعلى (يجوز ولا يجوز) في أغلبها، وجزء أقل يضع (الهوية) والحفاظ عليها قضية يجب أن تكون على رأس أولويات اهتماماتنا، لأن التغريب يمس الهوية، ويُذوب خصوصيتنا.
فئة (يجوز ولا يجوز) يلجأون إلى أن أخلاق الغرب، وما يسمحون به في مجتمعاتهم، لا تسمح به أخلاقنا، ولا شرعنا، ناهيك عن عاداتنا وتقاليدنا. مثل هذه الحجة يمكن السيطرة عليها بالقوانين والأنظمة التي تعالج هذه الجزئيات إذا افترضنا جدلا صحتها؛ غير أن الغوص في قراءة شرائع الغرب ومعظم أخلاقياتهم، تجد أغلبها، ولا أقول كلها، تتماهى مع أخلاق شرائع الدين، لدرجة أن الفقيه والإمام الشيخ محمد عبده، عندما زار أوروبا في مطلع القرن العشرين، قال مقولته الشهيرة والتي سارت بها الركبان: (ذهبتُ للغرب فوجدتُ إسلاما ولم أجد مسلمين وعدت إلى الشرق فوجدت مسلمين ولكن لم أجد إسلاما)؛ والشيخ - كما هو ثابت - كان من أهم الرموز التي دافعت عن الإسلام في وجه المستشرقين الغربيين الذين كانوا آنذاك طلائع من شككوا بالإسلام وتعاليمه، وصلاحيته من حيث المبدأ والمنطلق كمصدر من مصادر التقنين التشريعي. صحيح أن هناك بعض التفاصيل وربما القوانين التي لا تتوافق مع شرائع و أخلاقيات الإسلام المقدسة، وأشهرها دور البغاء التي تشرعها بعض الدول مثلا، إلا أن أغلب الغربيين، والمحافظين منهم على وجه الخصوص، يحاربونها وبشراسة؛ ولا يجب منطقيا أن نعمم بعض الاستثناءات الجزئية، لنلغي بها العموميات وهي بلا شك الأغلب. خذ - مثلا - (قوانين التحرش بالنساء)، ستجد بوضوح أنهم في غاية التشدد حيال هذا التدني الأخلاقي غير الإنساني القميء، في حين أن مجلس الشورى في المملكة - مثلا - صوتت أغلبية أعضائه - للأسف - ضد إقرار أية آلية قانونية، من شأنها كبح جماح ظاهرة التحرش؛. كما أن دور البغاء، واستعمال جمال المرأة أو أنوثتها، واستغلالها لتسويق البضائع بصورة تفسخية، أصبحت اليوم ممارسات مرفوضة، على اعتبارها قضية مبتذلة أخلاقيا، تمنعها اتفاقيات مناهضة الاتجار بالبشر، ومثل هذه الاتفاقيات في منطلقاتها محض لا أخلاقية.
أما الفئة الأخرى، التي ترفض (التغريب) فهم من يرفضونها بحجة (الحفاظ على الهوية الموروثة).. والسؤال هنا : هل قضية (الهوية) من الشؤون الثابتة الخارقة للزمان والمكان، التي لا تتغير ولا تتبدل، حتى وإن وقفت حائلا بين الإنسان وتحديثه والرقي به؟.. فلماذا لا نطور (هويتنا) لتواكب متطلبات التنمية؟ .. ولو قرأ أي إنسان موضوعي وعقلاني ثقافة الغرب الفلسفية، سيجد أن اهتمام الغرب بالأخلاق، ومقتضياتها، تعتبرها كل الدساتير الغربية المعاصرة بلا استثناء من القواعد (فوق الدستورية)؛ صحيح أن هناك بعض الفروقات بين ما هو أخلاقي في أعرافهم، وبين ما هو أخلاقي في أعرافنا، إلا أن هذه الفروقات تعتبر ضئيلة، وكذلك هي موجودة أيضا بين دول الغرب ذاتها؛ فالفيصل بينما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، يكمن دائما وأبدا في ما تسمح به وترفضه القوانين المرعية.
والسؤال الذي قد يطرحه قراء هذا المقال: لماذا تصر على التغريب؟ .
السبب أنني وجدت من قراءاتي لأدبيات التأسلم والمتأسلمين، أن من أهم الشعارات التي يطرحونها، ويدافعون عنها، وهي من أهم عقبات التحضر والتنمية في مجتمعاتنا، هي هذه العبارة؛ فهم ضد تطوير التعليم لأن الدعوة إلى المناهج الغربية (تغريب)، وهم ضد الابتعاث للدراسة في الخارج لأنها (تغريب)، وضد عمل المرأة لأنه (تغريب)، وضد تقنين الشريعة لأنها ممارسة تغريبية، وضد الترفيه لأنه (تغريب). وكل تلك الشؤون، هي من أساسيات (التنمية) بمعناه الواسع، لتصل إلى حقيقة مؤداها أن (التغريب) في قواميسهم هي (التنمية)، وغني عن القول: إن الدول التي لا تنمو ولا تتغير، وتتكلس ولا تتطور تنهار فتموت حتما.
إلى اللقاء.