د.محمد الشويعر
النفس البشرية هي سر الوجود على وجه الأرض، ومحور التصرفات فيه: عملاً وإحساساً، والبشرية خُلقت لعبادة الله وحده، وإعمارها والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، سورة النحل، الآية 8.
ولأن كل ما نلاحظه على وجه الأرض، ما هو إلا من
تسخير الله سبحانه للإنسان، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، سورة الجاثية، الآية 13. كما أبان الله في آيات كثيرة في كتابه الكريم، فقد سخر سبحانه لابن آدم أشياء كثيرة تكريماً وفضلاً منه سبحانه لعباده ليؤدوا حق الشكر، وليدركوا الدور المناسب الذي خلقوا من أجله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وأداء حقه سبحانه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}، سورة الذاريات، الآيتان 56، 57.
ومن هذه الخصوصية يدرك الإنسان أن ما في الأرض من علوم وأسرار، سواء على ظهرها أو ما في باطنها من كنوز، وما تسلكه أنواع المعارف، من مناهج وطرائق، وما يبذل على ظهر الأرض من جهود وأعمال، كلها تخاطب مواطن الإحساس في هذا الإنسان ويراد فيها تحريك العامل الوجداني، لكي يعرف بما وهبه الله من عقل يميز به الأشياء ثم يوازن في التفاضل بين الراجح والمرجوح، فيدرك جزءًا من أسرار النفس، وخفايا الأحاسيس فيها، وجزءا من أسرار الكون وما فيه من عجائب وخفايا مما تدركه الأعين، ومن ثم يجب الاتجاه إلى النافع ليسلكه والضار ليجتنبه: عقيدة وعملاً، لأن الله لا يخفى عليه شيء مهما رق وصغر والله يقول: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ }، سورة النحل، الآية 53.
وإذا أردنا أن نقارن بنماذج محسوسة، من الأعمال الحديثة التي ارتبطت بالعصر الحديث الذي برزت فيه مسميات عديدة منها عصر المعرفة والإعلام، وعصر الصحافة والمطابع، وعصر الانتشار واتساع المعرفة (مواقع التواصل الاجتماعي)، وغير ذلك من مصطلحات ومسميات، ترتبط بما يوجه للإنسان في العمل، وما يساق إليه من توجيهات يراد منها جميعها أو بعضها، جذب الإنسان إلى أفكار ومبادئ يدعو إليها أصحابها، كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحة:أن في فترة من فترات الزمن، يبرز فيها ((دُعَاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهُم إليها قذَفُوه فيها))، فمن استشرف لها جذبته، ومن اعتصم عنها بكتاب الله سلم.
ذلك أن كل صاحب نحلة يحاول جذب الآخرين إلى نحلته بأساليب متنوعة، فكان أهل الباطل هم أكثر الناس حماسة لمنهجهم، وكل صاحب نحلة يتحمس لنحلته.
وإن من تقوى الله أن يحاسب كل فرد نفسه، قبل أخذ القرار لأن الشاعر يقول:
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة
ونام عنها تولى رعيها السبع
وعلماء الإسلام يقولون: من كان بالله أعرف، كان منه أخوف، وما ذلك إلا لأن أهل الباطل هم الأكثر حماسة، والأكثر إلحاحاً في نشر باطلهم، والأشد في إضفاء الشرعية على باطلهم، وهم الأكثر إلحاحاً في تلبيس هذا الباطل ثوب الشرعية، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (عجبت لأهل الباطل ومواصلتهم لباطلهم ولأهل الحق ونكوصهم في حقهم).
وإن من يتابع ما ينشر في الصحف اليومية والمجلات والكتب أو في مواقع التواصل الاجتماعي كل ساعة، وما تبثه وسائل الإعلام الثلاثة: المرئي والمقروء والمسموع فإنه سيصيبه الدوار، وتتملكه الدهشة، ومع تقارب الأسواق والثقافات مع أن المقصود هو الإنسان، وشحن ذهنه غازياً أو مغزواً، ومخاطبة أحاسيسه، وكل مصدر من هذه المصادر تدعو إلى فكر أصحابها بحماسة وإصرار.
والمسلم أمامه من هذه الثقافات التي يبرز من بينها المنهج السليم، وهو ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهجه الذي رسمه لأمته عندما رسم خطوطا، وجعل منها خطاً مستقيماً ثم تلا هذه الآية الكريمة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، سورة يوسف، الآية 108. وجاءت كلمة السبيل وهي تعني الطريق والمنهج في كتاب الله الكريم أكثر من مائة مرة لعظم الأمر، وأن سبيل رسول الله الذي دعا إليه هو الأسلم، وهو الموصل إلى تقوى الله والنجاح، وهو الذي رضيه الله لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأمره بالحث لأمته، وأوصاهم به، وهو الدال إلى تقوى الله، والابتعاد عما سواه لأنه طريق النجاة.
ومن الآيات الكريمة في كتاب الله عزوجل التي تحث على الطريق المستقيم، والناهية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منهج لمن استقام عليها عملاً ومنهجاً، وأن كل مسلم مأمور بالالتزام والثبات يقول سبحانه:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، سورة الأنعام، الآية 153.
ذلك أن طريق الإسلام وتعاليمه هو المنهج السليم بأن تهفو إليه الأفئدة وتتجه إليه وسائل الإعلام كلها، وأن على الشباب المسلم أن يختاروا لأنفسهم حماية لدين الله الحق، حتى ينقادوا إلى بر الأمان والوقاية من المزالق في الفتـن والمهالك.
ولذا كانت أخلاق حملة القرآن، هي أحسن الأخلاق، وطبائع أصحاب هذه المدرسة لمن سار على آداب القرآن كما وصفه علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- في كلمات مطولة، وأنه طريق الله المستقيم من اعتصم به نجا، وما ذلك إلا أن أصحاب كل فكر ينقادون إلى سبيله، ويتأثرون بأقوالهم وأفعالهم، أما القرآن فهو يدعو للذي هو أقوم وأسلم لأنه كلام وسبيل النجاة، ولذا أمر الله سبحانه نبيه أن يقول: {هَذِهِ سَبِيلِي}.
فالقرآن الكريم شفاء لما في الصدور لذا ترتبط به النفوس إدراكاً وفهماً، وملازمه ومتابعة وتدبراً، فإن النفوس تختلف في فهمها للأمور، وتتفتح أمامها المغاليق في الحياة إن كانت موصدة، وكلما كانت الرابطة بالقرآن الاعتصام حيث تتسع دائرة الفهم، عن كل رموز النفس البشرية طمعاً في استجلاء الحقيقة التي خُلق الإنسان من أجلها: تدريجياً، كما وصف ابن مسعود رضي الله عنه التقوى: بأنها كمن يمشي في أرض بها أشواك أو رمضاء، فهو يجافي رجليه يمنة ويسرة اتقاء المخاطر.
وقد ذكر أبو بكر الآجري المتوفى عام360هـ، في كتابه أخلاق حملة القرآن الذي حققه الدكتور عبدالعزيز القاري أن بشر بن الحارث قال سمعت عيسى يقول: إذا ختم العبد قبل الملك بين عينيه، فينبغي له أن يجعل القرآن ربيعاً لقلبه، يعمر به ما خرب من هذا القلب، ليتأدب بآداب القرآن الكريم، ويتخلق بأخلاق شريفة، يتميز بها عن سائر الناس، ممن لا يقرأ القرآن الكريم، ولا يعمل بما فيه فيتأثر به.
فأول ما ينبغي له أن يستعمل تقوى الله في السر والعلن، باستعمال الورع في مطعمه ومشربه وملبسه، بصيراً بزمانه وفساد أهله، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، حافظاً لسانه، مميزاً لكلامه، إن تكلم تكلم بعلم، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه، أشد مما يخاف من عدوه، يحبس لسانه كحبسه لعدوه، ليأمن شره وسوء عاقبته، قليل الضحك فيما يضحك فيه الناس، كثير التأمل في ما حوله من آيات الله، يكره المزاح خوفاً من اللعب، إن مزح قال حقاً، ولا يغتاب أحداً، ولا يشمت بمصيبة، ولا يـبغي على أحد ولا يحسد، ولا يسيء الظن بأحد فيحسد بعلم ويظن بعلم، ويتكلم بما في الإنسان من عيب بعلم، ويسكت عن حقيقة ما فيه بعلم، قد جعل القرآن والسنة والفقه دليله، إلى كل خلق حسن جميل، حافظاً لجميع جوارحه عما نهي عنه، إن مشى بعلم، وإن قعد قعد بعلم، يجتهد ليسلم الناس من لسانه ويده، لا يجهل وإن جهل عليه حلم، لا يظلم وإن ظلم عفا، لا يبغي على أحد، وإن بُغي صبر، يكظم غيظه ليرضي ربه، ويغيظ عدوه، متواضع في نفسه، إذا قيل له الحق قبله من صغيراً أو كبيراً.
يطلب الرفعة من الله تعالى لا من المخلوقين، ماقت للكبر، خائف على نفسه منه، لا يتآكل بالقرآن، ولا يحب أن تقضى له به الحوائج، ولا يسعى به إلى البناء والتعالي، ولا يجالس به الأغبياء ليكرموه، إن كسب الناس من الدنيا الكثير، بلا فقه ولا بصيرة، كسب هو القليل بفقه وعلم، وإن لبس الناس اللين الفاخر، لبس هو الحلال ما يستر عورته، إن وسع عليه وسع، وإن أمسك عليه أمسك.
يتبع واجبات القرآن والسنة، يأكل الطعام بعلم، ويشرب بعلم، وينام بعلم ويجامع بعلم، ويصحب بعلم، ويزورهم بعلم، ويستأذن عليهم بعلم، ويحاور جاره بعلم.
يلزم نفسه بر والديه، فيخفض صوته لصوتهما، ويبذل لهما ما له، وينظر إليهما بوقار وعين الرحمة، يدعو لهما بالبقاء، ويشكر لهما عند الكبر، ويخضع لهما جناح الذل من الرحمة، ولا يضجر بهما ولا يحرمهما (أخلاق القرآن للآجري ص25-27) باختصار.
وهكذا نرى في كتاب الله، جوامع العلوم والآداب، فمن أدبه القرآن، وعلمته السنة، كملت خصال نفسه، وسهل عليه السيطرة على أسرارها، ومعرفة عجائبها، وكان من المتقين العارفين.
ولا شيء يريح النفس، ويتغلب على هواجس الفؤاد، براحة واطمئنان بمثل ما يأتي من القرآن في تأثيره لمن فتح الله قلبه، وأحاسيسه لتدبر معانيه، ليأخذها أهل التقوى، منهج عمل مع طمأنينة وراحة نفس لأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين المتقين بالراحة النفسية في الدنيا، وجزيل العاقبة الحسنة في الآخرة، يوم يحصل ما في الصدور{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، سورة فصلت، الآية 35.
نسأل الله لنا ولكم العافية، وعبادة الله على الطاعة وطريق الحق، اللهم اجعلنا من أهل الخير والصلاح.