أواصل في هذه المقالة ما كنت بدأت به من نقاش للوهم العلمي حول خبر رسالة ملك اليونان إلى الخليل بن أحمد وأقول: حتى نصل إلى حقيقة نص الزبيدي, ونزيل الوهم العلمي الذي لحق بهذا الخبر عن الخليل لابد من السؤال: ما الذي فعله الخليل في نص رسالة ملك اليونان المذكورفي خبر الزبيدي؟ وكيف فك مغالق نص في لغة لا يعرفها. حتى نعرف ذلك لابد من العلم بطرق التعمية وطرق فكها. ولابد من الوقوف على العمليات العقلية التي من خلالها استطاع الخليل فك معمى الرسالة.
لقد استعمل العرب مصطلح الترجمة والمُترجَم للدلالة على التعمية نفسها أوعلى بعض ضروبها (ما يكون بالتبديل البسيط) أو على استخراج الـمُعمّى . يقول أبو بكر الصولي ( ت 336هـ) في باب الترجمة في المكاتبة:» أصل هذه اللفظة [ يعني الترجمة ] فارسية, وكذلك الترجمان وقد تكلمت بها العرب بعد ذلك وعربتها... وهي شبيهة بالمعمى, وهو ما يكنى من الشعر, كأن يسمي الألف فاختة, والباء صقرًا, والتاء عصفورًا ثم يردد الحروف».
أما ابن وهب ( القرن الرابع الهجري ) فيفرد فصلاً للحديث عن المعمى تحت عنوان (الكتابة الباطنية) ويفرق بين التعمية والترجمة فيقول: « التعمية غير الترجمة, فالترجمة ما ترجم به عن شكل الحرف, إما بشكل حرف آخر يبدل منه, أو بصورة تـُخترع له ليست من صور الحروف, أما ما تـُرجم عنه بحرف مثله فهو كوضعنا العين مكان الجيم, والألف مكان الواو... وقد يكون هذا النوع من الترجمة في بعض الحروف, وقد يكون في سائرها. وأما ما تـُرجم عنه بصورة مخترعة له فهوكثير في الترجمة, ولكل إنسان أن يخترع منه ما أحب.»
وقد بذل محمد مراياتي ومحمد الطيان ويحي ميرعلم مؤلفو كتاب (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب) في جزأين كبيرين جهدًا علميًا مميزًا في تحقيق مخطوطات عربية كانت مجهولة في علم التعمية, ووضعوا جهود العلماء العرب في التأليف في هذا العلم تحت ضوء علمي فاحص, ودرسوا بعض تلك الكتب, وحللوا محتواها, وفصّلوا على أساسها القول في طرق التعمية لدى العرب, ووضعوا تلك الطرق في سياق مستجدات هذا العلم في زمننا هذا، ومما فصلوه من طرق فك التعمية طريقة استعمال الفواتح التقليدية المحتملة للرسائل, وهو ما سمي حديثًا بالكلمة المحتملة الورود» وقد كان الخليل بن أحمد بتوقد ذهنه وقوة حدسه أول من فكر بمفتاح الكلمة المحتملة, فكان هذا المفتاح أساسًا أوليًا هيأ له ابتكار علم التعمية ووضع أول كتاب في المعمى. وقد توقف علماء جاءوا بعد الخليل بن أحمد عند هذه الطريقة الأخيرة «الكلمة المحتملة «مثل الكندي, ومثل ابن وهب , ومثل ابن عدلان الذي أولى هذه الطريقة أهمية عظيمة.
وكانت فكرة (الكلمة المحتملة) أول خطوات الخليل بن أحمد العلمية لفك رسالة ملك اليونان. وتلك الخطوات هي موضوع المقالة القادمة.
** **
- د. فاطمة بنت عبدالله الوهيبي ** Rafeef 2010@gmail.com