أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
لا يدع المؤرِّخ المؤدلج سبيلًا أو مغارة أو مدّخلًا إلّا التمس فيه ما يؤيّد دعواه. وهذا دليل الإفلاس، وشِعار الشعور بالتعطش للدليل بأي طريق على دعاوَى كبيرة وكثيرة تقوم على فراغ من الدليل. ففي (الفصل الثالث عشر) من كتاب (د. أحمد داوود)، «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود»(1) تقرأ، مثلًا: «إن هذه الحقيقة [يعني كون بني إسرائيل كانوا في سراة (غامد)] كانت أمرًا عاديًّا بديهيًّا ومألوفًا في فجر الإسلام وزمن الدولة العربية الكبرى الأموية والعباسية. ففي تفسير الصافي عن الإمام جعفر الصادق أنه «لما انقضت أيام موسى أوصى الله إليه أن يستودع الألواح جبلًا يقال له (رنيا)، فأتى موسى الجبل فجعل فيه الألواح ملفوفة... فلم تزل في الجبل حتى بعث الله نبيه (ص)، فأقبل ركب من اليمن يريدون الرسول، فلما انتهوا إلى الجبل انفرج عن الألواح، وكانت ملفوفة كما وضعها موسى، فأخذها القوم... فلما قدموا على النبي أخرجوها ووضعوها بين يديه، فنظر إليها وقرأها وكانت بالسريانية».» هذه هي الحقيقة التي كانت أمرًا «عاديًّا بديهيًّا ومألوفًا في فجر الإسلام وزمن الدولة العربية الكبرى الأموية والعباسية». لكن ماذا نجد حين نعود إلى «تفسير الصافي» نفسه، الذي لم يجد (داوود) غيره للاستدلال؟
أولًا، ما نجده حكاية أُسطوريّة، وغير عقلانيَّة، إنْ كان في الأساطير ما هو عقلانيّ، إنما أريد بها ادِّعاء عِلْم آل البيت بكلّ شيء، بما في ذلك عِلْم الغيب. وهي دعوَى غُلاة الشيعة المعروفة، التي لا يُقِرُّها عقلٌ ولا نقل. فهي، إذن، تمامًا كتلك الخرافة التي استند عليها (الصليبي) في شأن (الملك داوود)، الواردة في كتاب «الإكليل»، وعرضناها في مقال سابق. فحين ترجع إلى «تفسير الصافي» لا تجد إلَّا خبرًا أُسطوريًّا، اجتزأه (داوود) وهذَّبه بطريقته حتى لا ينكشف عواره الذي يُسقِط الاستشهاد به جملةً وتفصيلًا. هذا فضلًا عن تضخيم أهميّة ذلك الشاهد بعبارات، من قبيل القول بـ»بدهيته»، و»حقيقته»، و»عاديته»، و»مألوفيته» في فجر الإسلام وزمن الدولة العربية الكبرى الأموية والعباسية. وكثيرًا ما يُلِحّ على مثل هذه العبارات الضخمة في كتابه، محاولًا تثبيت ما يقول وترسيخه في ذهن القارئ، ولو بمثل هذه الكلمات الفارغة من المعنى العارية من الدليل المُعْتَدِّ به، من مثل وصفه ما يقول: بـ»النتيجة الحاسمة»، و»الحقائق الثابتة»، التي «لا يشك لحظة في صحتها»، وأنها ممّا «لم يعد خافيًا»، وممّا قد «صار معلومًا» بالضرورة، ونحوها من العبارات النمطيَّة، يكرّها في كتابه لعله يُثبِّت من خلالها فؤاد القارئ وعقله الشاكّ المتسائل.
ثانيًا، نجد حين نعود إلى «تفسير الصافي»، أن المكان الذي أورده (داوود) زاعمًا أن ألواح موسى كانت فيه ليس بالاسم الذي ذكره. فقد ذَكر داوود «جبلًا يقال له (رنيا)»؛ ليقول إن المقصود: (جبل رنية) أو (وادي رنية)، لكن المكان المذكور في «تفسير الصافي» هو: «جبل يقال له: زينة»، (بالزاي)!
ثالثًا، الحكاية التي لوّح بها داوود بوصفها الدليل الدامغ على مزاعمه التاريخيَّة، وعدَّها من الحقائق البدهيَّة، إنما جاءت ككلّ الأقاصيص من هذا النوع لغرضٍ إديولوجيٍّ، لا يخفَى. فهي تزعم- ناسبةً ذلك إلى (العياشي) عن (جعفر الصادق) في «الجفر»- أن الله أمر موسى أن يستودع الألواح، وهي زبرجدة من الجَنَّة جبلًا يقال له (زينة)، فلم تزل في الجبل حتى مبعث محمّد، فانفرج الجبل عن الألواح لركبٍ يمانيٍّ إلى الرسول، فهابوها وأخذوها إليه؛ فنزل جبريل فأخبره خبرهم، فأخرجوها له فنظر فيها وقرأها، «وكانت بالعبرانيَّة». وهنا يُلحظ أن (داوود) قد غيّر العبارة، فكتبَ: «وكانت بالسريانيَّة»، بدل «وكانت بالعبرانيّ»، الواردة في «تفسير الصافي»! لماذا؟ لأنه لا يريد الإشارة إلى «العبرانيَّة» أصلًا؛ فالسريانيَّة لديه هي لغة اللغات، لغة (سوريَّة) الكبرى، و(السَّراة)، والتاريخ أجمع! وإلّا فروايته شاهدة عليه؛ فأيّ سريانيَّة كانت في الجزيرة العربيَّة؟!(2) أم أن موسى كان يتكلَّم بلغة السريان وهو من أبناء الجزيرة العربيَّة، كما يزعم داوود؟! وللقارئ هنا- على كل حال- أن يقيس مدى الأمانة العِلميَّة، حتى في النقل من كتابٍ مطبوع. وتمضي تلك الخرافة إلى القول إن الرسول دعا (عَلِيًّا)، وأخبره أن الله قد أمره أن يدفعها إليه؛ لأن فيها عِلْم الأوَّلين والآخرين. ولمّا اعتذر عليٌّ بعدم إحسانه قراءتها، تدخّل جبريل فأمره بحلٍّ بسيطٍ جدًّا، فما عليه سوى أن يضعها مخدَّةً تحت رأسه وينام عليها ليلته؛ فإنه ما أن يصبح حتى يكون قد عَلِم قراءتها؛ ففعل فأصبح وقد علَّمه الله كلّ شيء فيها، فأمر الرسولُ بنَسخها. قال الراوي: «فنَسخَها في جِلْد، وهو الجَفْر، وفيه عِلْم الأوَّلين والآخرين، وهو عند نا، والألواح عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثنا النبيِّين أجمعين»!(3)
أ فعلى مثل هذا يستند المؤرِّخ المعاصر؟!
أجل، لقد وردت من الجهالات بالكون والتاريخ في كُتب التراث العربي ما لا أوّل له ولا آخر. فإذا كان الباحث المعاصر سيتكئ على ذلك، فأرِّخ ولا حرج! ذلك أن أولئك القدماء لا عِلْم لهم، بحقيقة ما يعنيه هذا المصطلح، وهم في الوقتِ نفسه لا يتورَّعون عن نقل الخُرافات والأساطير الشعبيَّة على أنها حقائق عِلْمِيَّة، يسردونها في كتب التاريخ والتفسير والمعجمات، دون أن يكلِّفوا أنفسهم بمجرَّد السؤال عن أصل تلك المرويّات، وصحَّتها، ونصيبها من الواقع والطبيعة والعقل. يكفي أنها متوارثة عن السلف، بعنعنات مألوفة، ليحشو أحدهم بها مصنّفاته. وتلك عقليَّة أولئك الذين كانت تُضفَى عليهم صفة الإمامة والتبحّر في العِلْم، أيّام كانت هاتان الصفتان لا تعدوان معنى الحِفظ والترديد لمزيج من الحقائق والأباطيل.(4)
(1) (دمشق: دار المستقبل، 1991)، 287.
(2) نحن نعلم هنا المزاعم الاستشراقيَّة المعاصرة التي تدّعي أن عرب الجزيرة لم تكن لغتهم العربيَّة الفصحى في صدر الإسلام، بل تغلب عليهم السريانيَّة، وقد بلغ بهم الادِّعاء إلى القول إن القرآن كان بالسريانيَّة ثم عُرِّب! كما لدى (كريستوف لوكسِمبِرج) في كتابه: (The Syro-Aramaic Reading of the Koran: A Contribution to the Decoding of the Language of the Koran, (Berlin: Verlag Hans Schiler, 2007)). ومزاعم (أحمد داوود) تلتقي مع لوكسِمبِرج.
(3) انظر: الكاشاني، محسن الفيض، (1379شمسيَّة= 2000م)، تفسير الصافي، عناية: حسين الأعلمي (طهران: مكتبة الصدر)، 2: 237.
(4) من ذلك ما يورده (الطبري) في تاريخه وتفسيره، ولا سيما في شأن «بدء الخَلْق». وقد تناثرت شظايا العقل الخرافي في كتب التراث على اختلاف مجالاتها، ومن ذلك ما جاء في قِصص الأنبياء والتاريخ وتفسير القرآن. ويكفي مَن شاء أن يعود إلى كتاب كـ»عرائس المجالس في قصص الأنبياء»، لـ(أبي إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي، -427هـ)، أو «قصص الأنبياء»، لـ(محمّد بن عبدالله الكسائي، ق11م)، ليجد من ذلك العجب العُجاب في قِصصٍ كقصص «ألف ليلة وليلة»، كانت تجارةَ القُصّاص منذ العصر الأُموي، ومعظمها من الإسرائيليّات، التي ما يفتؤون ينسبونها إلى (كعب الأحبار)، أو (وهب بن منبّه)، وأحيانًا إلى (ابن عبّاس). وقد غلا السلف في هذا الأخير غلوًّا عظيمًا، حتى صاروا يستسيغون أن ينسبوا إليه من غرائب الغيب ما لم يَرِد في كتابٍ قط ولم يأتِ عن رسول.
مع أن الرسول توفي وابن عبّاس طفل، لم يبلغ الحُلم. وإنما أصل تلك الأَسْطَرَة لشخصيَّته الدعايةُ السياسيَّةُ العبّاسيَّة، كما كان أصل الأَسْطَرَة لشخصيَّته (عليّ) الدعاية العَلويَّة. وما أكثر ما يرثُ الخلفُ السياساتِ على أنها أديان! ومن نماذج تلك المؤتفَكات- على سبيل الشاهد- قولهم إن (قافًا) جبلٌ محيطٌ بالأرض، مخلوقٌ من ياقوتةٍ خَضْراء، وإن السماء كانت بيضاء، وإنما اخضرَّت من خُضْرة جبل قاف.
وبهذا فسَّر بعضهم كلمة «قاف» المستهلّة بها (سورة قاف)! (انظر: الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، 11: 401؛ الكسائي، محمَّد بن عبدالله، (1922)، قصص الأنبياء، تصحيح: إسحاق بن ساؤول ابزنبرغ (ليدن: بربل)، 1: 9؛ الفراهيدي، العَيْن، (عمد)؛ الأزهري، التهذيب، (حقف)؛ ابن سيده، المحكم، (قوف)؛ الصغاني، العباب الزاخر، (حقف)؛ ابن منظور، لسان العرب؛ الزبيدي، تاج العروس، (قوف)، وغيرهم).