د. جاسر الحربش
لدينا مشكلة مع مواصفات المواطنة التقليدية واشتراطاتها للقبول والرفض في تعريف مخرجات العقل داخل إطار محدد. العبقرية الهندسية في عقل زها حديد لم تكتشف حيث ولدت وسميت وأطلقت صرختها الأولى. الجينات كانت عربية ومخرجاتها الإبداعية تحولت إلى غربية وعالمية. لا أريد ذكر أسماء إضافية، أذكر فقط بمئات العقول العربية المهاجرة من ديار العرب والمسلمين، ثم اتضحت ولمعت امكانياتها الريادية في الغرب فاستثمرت هناك. هذه العقول لن تعود إلى أوطانها الأولى، لأنها لو عادت لأخضعت لعوامل الجفاف والتعرية السائدة في أماكن نشأتها، حيث يتحكم النقل بالعقل.
البيئة العربية متوجسة من التفكير الحر طاردة للعقول متقبلة فقط لبذور النقول. الصراع عبر القرون لمحاولة التنسيق بين العقل والنقل كسبه النقل منذ زمن طويل لأسباب تاريخية. العقل خسر المعركة واستبعد إلى مكان قصي عن التعبير والرعاية. الحمدلله أنه لم يمت بالسكتة القلبية، ولو أنه أورث في القلوب الواعية انكسار الآباء حين يفارقهم الأكثر ذكاء ً من ذريتهم، من غير أمل في العودة. حين يغادر الطائر القفص يكتشف سعة وتنوع العالم فلا يعود، والعقل كذلك.
حاليا ً أصبحنا نتبادل التهاني والأفراح لفوز بعض شبابنا في المسابقات العلمية العالمية للطلاب الموهوبين. لكن ثم ماذا يحصل بعد الفوز والتهاني، هذا السؤال لا نطرحه على أنفسنا ربما لوضوح الجواب. هل سنرفع عنهم اشتراطات النجاح التقليدية لنبني لهم مراكز البحث المستقل والتطبيق العملي؟. هل سوف نطلب من رؤوس أموالنا المتراكمة والمستثمرة في التدوير الإستهلاكي، أن تستقطع الحصة الوطنية المتوجبة عليها لاستثمارها في المواهب ومخرجاتها؟.
من أوضح الأدلة على التقليدية في المجتمعات الإسلامية، ونحن منها في القلب، أن كل من اغتنى وأثرى بطريقة ما يكتفي ببناء مسجد ليذكره الناس بالخير. لا شك في أن تعمير بيوت الله من أفضل القربات في مجال العبادات، ولكن ماذا عن البحث عن الأجر والثواب في المعاملات، لأنه من الدين في المعاملات إعمار ما يحتاجه الناس لتيسير وصلاح أمور دنياهم. لماذا لا نلاحظ أن وجود أربعة مساجد أو أكثر في حارة واحدة لا يفصل بين المسجد والآخر سوى شارع أو طريق، لا يقرب المصلين من بعضهم، بل يبعثرهم في عدة أماكن. الأعداد المحدودة من المصلين في كل مسجد لا تملأ ربع المساحة، ليس بسبب قلة المصلين بل لتفرقهم في مساجد عدة متجاوره. التبرعات في المجتمع السعودي لدين العبادات وافرة، ولكن ماذا عن التبرعات لفرع المعاملات. أليس من الأنفع في مثل هذه الأوضاع التبرع بمستوصف أو تجهيز مركز تدريب مهني للشباب العاطل في ذلك الحي الذي تقوم فيه عدة مساجد، لتتكامل العبادات مع المعاملات؟.
أموالنا الوطنية الخاصة أكثرها أموال مهاجرة ومستثمرة في مشاريع خارج البلاد. إذا هاجرت الأموال بسبب إهمال إبداعات العقول وشح الاستثمار في الأفكار والمواهب لن يكون مستغربا ً هجرة العقول بحثا ً عن استثمار مواهبها في البيئات المناسبة.
أعود إلى عنوان المقال للتذكير مرة أخرى: ما أسوأ أن تضمر وتنكمش العقول والمواهب في الأوطان، لنكتشف أن لدينا طاقات إبداعية لا تثمر إلا في الخارج. تعديل كفة الميزان بين الثابت القطعي من المنقول والمتغير المتجدد باستمرار من المعقول يبدأ في مراحل التعليم ما قبل الجامعي والمهني، لأن تحقيقه بعد هذه المراحل يصبح خارج المعقول. العقل بعد سن الثامنة عشر يكون قد انطبع بما نقش فيه. اختمم بمقولة العالم المصري الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء أحمد زويل، الغرب ليسوا عباقرة ونحن أغبياء. هم فقط يدعمون الفاشل لكي ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل.