شهد التاريخ عبر العصور لرجال غيروا مجرى الأحداث وصنعوا بفكرهم عالم جديد ونموذجاً يحتذى به بين الأمم، وقد شهدنا في عالمنا المعاصر رجالاً صدقوا في رسم التغيير قبل إحداث التغيير نفسه وسوف يشهد التاريخ لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في الحاضر والمستقبل واجتازوا الصعاب بعزمهم وصبرهم. فلن يقف العطاء على زمن معين ولن يقف الزمن على نموذج واحد من الرجال. وأثبتت الأيام أن رجل واحد يستطيع أن يرسم رؤية أمة بكاملها، ويستطيع رجل واحد أن ينقل برؤيته مجتمعات بأسرها. وسيشهد التاريخ إن شاء الله وفي سنوات قليلة لسمو الأمير محمد بن سلمان في كل ما يقدمه أو قدمه في رسم التغيير، وسوف يكون نموذجاً يتردد على شفاه ومسامع الأساتذة والطلاب في محاضرات الجامعات وقاعات التدريب والتطوير. وسنتذكر جميعاً عند ما يبدأ قطف ثمار هذه الرؤية المباركة لندرك حينها أننا كنا بحاجة هذه الرؤية وبأمس الحاجة لمن لديه القدرة على قيادة التغيير.
وسوف نفخر بأن لدينا في المملكة نماذج سطرت وتسطر بفكرها وعزمها وحزمها معاني جديدة للتغيير كنموذج للعطاء الذي لا ينقطع. وقد شهد التاريخ لأسلافنا العرب في هذه الجزيرة المباركة ممن أبهروا العالم في قلب الموازين وقيادة التغيير لرسم تاريخ لا ينسى.
وقد فخر العرب قديماً وحديثاً بما يستحق الفخر كما فخرنا من بعدهم بهم وبفخرهم ونحن دائماً أهل لمثل هذا الفخر، ولا أعلم بأي قصيدة أستشهد من فخرنا العربي ولا بأي بيت من مفخرة خالدة كقصيدة عمرو بن كلثوم أو قوله:
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ... تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا
ولن أطيل في ذلك أو في الثناء على هذه الرؤية المباركة حتى لا يظن البعض أنه تم إعداد هذا المقال لمدح الأمير محمد بن سلمان وهو أهل لذلك.
ولكن الهدف من إعداد هذا المقال هو التجديف مع مركب الرؤية والإعداد للانطلاق السريع نحو أهداف هذه الرؤية الجديدة.
فمن واقع معايشة البيروقراطية القائمة والاطلاع على دهاليز التعطيل والتعقيد في كثير من الأجهزة العامة أردت أن أوضح أن لدينا في المملكة الكثير لنستشهد به ولدينا رصيد زاخر بالدروس المستفادة بالنجاح والفشل التي سوف تتيح للمتمعن التبصر في محاور وأقطاب المقاومة الظاهرة والخفية للتغيير.. ومن خلال التبصر في واقع هذه الأجهزة سوف يسهل لمتخذ القرار أن يقلب اتجاه القوى المعاكسة لأهداف هذه الرؤية وتحويل مسارها إلى خطط داعمة للتسريع في إحداث التغيير. وقد حدث الكثير من الأمثلة في التعديل وفي أقل من سنة لاختصار الزمن نحو التغيير على مستوى الأجهزة والمسؤولين في حراك التهيئة للمرحلة المقبلة.
وقد عاشت وعملت أجهزة حكومية بكاملها بدون هدى الرؤية ووفقاً للاجتهاد وبكل سلبياته، بل إن بعض الأجهزة العامة يمر عليها عقود من الزمن دون أن تحقق الهدف المنشود من إنشائها، وعلاوة على ذلك فقد تفاقم الأمر لدى بعضها لتصل إلى مرحلة تعطيل الأهداف بدلاً من تحقيقها وأصبحت عبئاً على الأجهزة الأخرى لتقف دون تحقيق الأهداف العامة. وعبئاً يترهل ويتزايد حمله على الميزانية العامة للدولة.
لذلك فبمثل هذه الرؤية الجديدة سوف تجد مثل هذه الأجهزة نفسها أمام ضرورة العمل على رسم رؤيتها لتواكب التغيير والتسريع في تصحيح مسارها قبل أن يصدر القرار بإزالتها من الهيكل الحكومي أو فتح صناديقها السوداء.
فقد عاصرنا أن يأتي مسؤول، ويعفى مسؤول، ويكلف مسؤول ويستبدل مسؤول، ويدور مسؤول في حلقة مفرغة دون أن يعلم من أين يبدأ.. ليمر الزمن بدون إحداث أدنى تغيير والسبب يكمن في غياب الرؤية الوطنية، وعدم إدراك أهمية رسم الرؤية الصحيحة، فكل مسؤول يبدأ من جديد ومن حقيبة الاجتهاد يدور في رسم أهداف لا تتصل مع غيرها من الأهداف، وربما تتعارض مع الأهداف السابقة، بل يصل الأمر لنسف ما بناه زملاؤه السابقين بدلاً من استكمال البناء نحو تحقيق الأهداف العامة.
فعلى شاكلة هذا الهدم السلبي من بعض المسؤولين الذين «يحسبون أنهم يحسنون صنعاً» بنيت معاقل التعطيل عبر عقود. وبسبب غياب الرؤية الصحيحة.
وعليه فمن الطبيعي أن يظهر في طريق هذه الرؤية الجديدة كثير من العقبات وكثير من المعطلين وبعض المرجفين والمشككين في إنجازات الرؤية القريبة والبعيدة.
لذلك فإنه لا مفر من قبول وجود مثل هؤلاء كظاهرة طبيعية في مقاومة التغيير حتى يتم العمل على أخذ مثل هولاء بفكرهم وبتركات أجهزتهم إلى أيسر مسار يستطيع أن يحمل ما تدركه عقولهم قبل أخذهم للأهداف العظام. ومن إيماننا بأن الناس بكافة مستوياتهم يتفاوتون في العقول والعزائم.. وفي هذا المقام لعلنا نتذكر ونستلهم بعضاً من الحكمة الخالدة من قول شاعرنا العربي أبي الطيب المتنبي:
عَلى قَدْرِ أهْل العَزْم تأتي العَزائِمُ
وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرام المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغير صغارُها
وَتَصْغُر في عَين العَظيم العَظائِمُ
لندرك حقيقة هامة بأنه لن يستطيع المساهمة في تحقيق أهداف رؤية المملكة الطموحة ستة أنماط:
1- صغار العقول والعزائم.
2- الأنماط الجامدة التي لا يعجبها أو يخيفها التغيير والتطوير.
3- المنتفعين من الوضع القائم إما بصلاحياتهم أو بمنافعهم الشخصية.
4- الذين اعتادوا على السير في وتيرة واحدة ولم يصقل مهنيتهم التنوع في التأهيل والخبرات.
5- الذين ليس لديهم القدرة الفكرية على اختبار البدائل أو تعجز أذهانهم عن الحساب المدروس لكل أبعاد قراراتهم.
6- كل الذين اعتادوا الأخذ دون العمل أو الأخذ بدون وجه حق.
وبلا شك وكأي مجتمع لدينا الكثير من هذه النماذج وكذلك لدينا النماذج «الخلاقة» وهنا فتشخيص المشاكل الحالية في بعض الأجهزة العامة يفترض أن يبدأ بتشخيص مثل هؤلاء وتحديد أجهزتهم للبدء بتغييرهم أولاً أو تحييد قراراتهم.
أما الغالبية الأعظم من المسؤولين والأجهزة العامة فقد تكون مستعدة أو شبه مستعدة للعمل بتناغم سريع مع أهداف الرؤية الجديدة ولديهم العزم والأدوات المناسبة لدفع عجلة التغيير..
وفي نطاق أصغر سوف يوجد أجهزة عامة ومسؤولون لديهم الرغبة الجادة بالتغيير إما بالقناعة الكاملة بأهمية التغيير أو بسبب الخوف من المساءلة عن تخلف تلك الأجهزة أو تعطيلها للآخرين. وهؤلاء يجب أن تتخذ معهم استراتيجية مختلفة باختلاف طبيعة مشكلاتهم وضعف روح المبادرة لديهم. فهؤلاء بحاجة لمن يقودهم أو يجبرهم على التحرك للأمام. ولكسب الوقت مع هذه الفئة من المسؤولين يجب إشراكهم في رسم خطط عمل مجدولة بحيث يتم البدء معهم من أدنى الأهداف وأيسرها تحقيقاً.. ثم التدرج معهم لمساعدتهم على التحول البسيط، مع الأخذ في الاعتبار أهمية ترتيب الأولويات لهم حتى لا تصبح أجهزتهم من أجهزة التعطيل وإعاقة التحول. فيجب رسم الأولويات لمثل تلك الأجهزة لأن مثل تلك الأجهزة «سوف تُسَير» ولن تسير في الاتجاه الصحيح.. والسبب لأنه وبكل أسف يوجد داخل بعض الأجهزة العامة معطلين ظاهرين ومستخفين بحكم المنافع الشخصية لهم وقد يقدمون لبعض المسؤولين في تلك الأجهزة مشورات في ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لدرجة أنه لن يدرك بعض المسؤولين في تلك الأجهزة دوافع كثيرة خلف بعض الاستشارات المقدمة لهم. وفي النقيض وعلى جانب آخر من الاستشارات يخفق بعض المسؤولين في اختيار مستشارين من «الفاقدين» بسبب معايير واهية لديهم مثل الزمالة السابقة أو الثقة أو حفظ الأسرار أو الولاء الشخصي، إذا أخذت مثل هذه الأمور والمحسوبيات كمعايير.. فتساهم كثير من المعايير المضللة في إيجاد الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب. وخصوصا في من يتم اختيارهم كمستشارين لبعض كبار المسؤولين في الأجهزة العامة.
وفي الجانب الآخر يفرط كثير من المسؤولين في الاعتماد المطلق على الاستشاريين الأجانب؛ فالمكاتب الاستشارية على سبيل المثال قد لا تؤتي ثمارها في كل الأحوال وخصوصاً إذا سُلم بأن كل ما يقدمه الاستشاري صحيح أو كامل أو»نزيه». فيجب أن يقود مثل هؤلاء الاستشاريين غير السعوديين استشاريين «وطنيين» لديهم التأهيل والحنكة والسجل الحافل بتجارب النجاح العملية وفي ممارسات على أرض الواقع، أو تجارب نجاح مشهودة في قيادة استشارات سابقة وشهد الجميع بنجاحهم.. حتى لا تبنى بعض القرارات في مرحلة التغيير على أسس واهية.
سعود بن فهد العيد - صندوق الاستثمارات العامة