لا يوجد مجتمع من المجتمعات البشرية خالٍ من العيوب والأمراض والأسقام الاجتماعية، ولكن هذه المثالب وإرهاصاتها تختلف معدلاتها وحجمها من مجتمع لآخر حسب درجة الوعي المجتمعي والعمق الحضاري والبعد الثقافي للمجتمعات بشكل عام، ففي واقعنا المعاصر ظهرت بعض الأمراض الاجتماعية ومنها.. آفة التملّق الوظيفي، والنفاق الاجتماعي، والتسلّق على المنصب بحثاً عن تحقيق مصالح شخصية وأهداف ذاتية غير مشروعة، يُعدُّ من العمليات الاجتماعية الهدامة. وهذه المظاهر السابقة شأنها في هذا السياق، هو شأن الغيبة والنميمة والكذب والحسد والمدح النفاقي والدعاية الرمادية والتلّون الحرباوي، حيث باتت - مع الأسف- ممارسات متوّغلة في سلوكيات وعادات كثير من الموظفين، حيث تضرب بأطنابها في خاصرة بيئة العمل, ولا أحد ينكر وجود هذه العمليات الاجتماعية الخارجة عن قواعد الضبط الأخلاقي والديني والقيمي في أيّ مكان، سواءً في العمل الحكومي أو في القطاع الخاص أو حتى داخل نسيج العلاقات الاجتماعية والأسرية. ولاشك أنَّ لهذه العمليات الاجتماعية المدمرة، خاصةً مرض التملّق والتسلّق الوظيفي مصطلحات عامة عند بعض علماء الاجتماع النفسي، ومن ذلك مسح الجوخ، أو ادهن السير يسير، أو الاستقماط، والأكيد أنَّ المتسلقون على المناصب يبحثون دائماً عن معاملة تفضيلية ومكانة وظيفية أفضل، والقرب أو التقرّب من المسئول الأرفع في بيئة العمل، وذلك من خلال ممارسة أساليب مناهضة لمعايير الوظيفة الأخلاقية وقواعدها المهنية السامية وقيمها التربوية، وهؤلاء المتلّونون يتحدثون بلغة التملّق اللا أخلاقي والنفاق الاجتماعي بدون وعي قيمي أو ذوق إنساني أو منهج حضاري.
والعجيب والغريب أن أولئك لايدركون أنَّ سلوكهم المنحرف عن مسار الضبط القيمي والشرعي والتربوي يخالف الفطرة الإنسانية، ولا يليق بأخلاقيات المسلم الحقيقي المنبثقة من قواعد الشريعة الإسلامية ومنهجها القويم، يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «تجدون شرَّ الناس ذا الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه»، وتبعا لذلك فإنَّ الموظف الحقيقي صاحب المبادئ السامية والقيم الواعية يفرض احترامه بجده ونشاطه ومصداقيته ونزاهته وأمانته، وبالتالي يجعل إنتاجيته في مجال عمله وسيلة نجاحه الوظيفي وتميزه عند رئيسه المباشر.
إنَّ المُتسلّق أو المُتملّق، الذي يتلوّن حسب المعطيات والمواقف والمصالح يتجرد بكل غباء وقبح وإفلاس فكري من منظومة القيم الأخلاقية ومكوناتها التربوية، ويحاول كسب ود المدير بأيّ وسيلة كانت، وإلحاق الضرر بالآخرين من خلال نقل معلومة مفبركة أو مصبوغة بلون من ألوان الكذب عن أحد زملائه في العمل، بحيث توجب غضب المدير أو تشويه صورته لغرض في نفس يعقوب،!! وبالطبع أنَّ التسلق على المناصب والتملّق الوظيفي يأخذ عدة أشكال أو مظاهر داخل محيط العمل. ومن صور النفاق الاجتماعي، تقديم الهدايا للمدير، وتقديم خدمات شخصية له ليست ذات علاقة بالوظيفة، إلى جانب مدح المسئول بما لا يستحق أمام المرؤوسين، وكذلك الإساءة للآخرين، إضافةً إلى نقل صورة غير صادقة للمدير بهدف تشويه سمعتهم وتعزيز مكانته عنده، ولذلك فإنَّ مرض التسلّق والتملّق صفة من صفات الفاشلين، الذين لا يستطيعون أن يحققوا بقدراتهم الوظيفية ما يطمحون إليه، فيلجأون إلى أساليب النفاق والانتهازية والكذب والتلوّن بكل إسفاف واستخفاف.!!
ولاشك أن لآفة التسلّق والتملّق والنفاق الاجتماعي في بيئة العمل تحديداً، أسباب ودوافع منها.. ضعف الوازع الديني، وقد ينشأ هذا الداء الاجتماعي النفسي عن خلل وظيفي يعتري عملية التنشئة الاجتماعية والنفسية والتربوية والعقلية والوجدانية للمتملّق والمتسلّق، وربما يكون من أسبابه أيضاً المشكلات الأسرية، التي تؤثر على الحالة المزاجية للموظف واستقراره النفسي والعاطفي والاجتماعي، كما أنَّ الأصدقاء، خاصةً قرناء السوء لهم دور مؤثر في ظهور هذه الآفة المجتمعية البغيضة في بيئة العمل.
بالإضافة إلى العوامل الثقافية والتعليمية والفكرية والاقتصادية التي تلعب دوراً «بنيوياً» حراكياً في اتساع دائرة هذه الأزمة السلوكية المظلمة ذات الأبعاد الاجتماعية والنفسية والتربوية وصورها المتفاوتة، ولمعالجة هذا الوباء الاجتماعي الحد من انتشار هذا السلوك المشين، هو تفعيل دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة والمؤسسات التعليمية والمؤسسات الدينية والثقافية والتربوية) خاصة المؤسسات الدينية في تنوير المجتمع بخطورة هذا المرض في كل مناحي الحياة، وذلك من خلال خُطب الجمعة. خاصة وأن هناك دراسة متخصصة كشفت أنَّ تأثير خطبة الجمعة في إيصال المضمون والتوجيه والإرشاد والتوعية المجتمعية أكثر من تأثير الإذاعة والتلفاز، كما أنَّ للمؤسسات الإعلامية والتربوية والثقافية والمؤسسات الاجتماعية المعنية دورا محوريا في رفع سقف الوعي وتنمية اتجاهاته الحضارية والسلوكية والفكرية والقيمية داخل البناء المجتمعي، إلى جانب أهمية مشاركة الصروح الأكاديمية والتعليمية في هذا الاتجاه التوعوي، وذلك بعقد المؤتمرات الفكرية التنويرية وعمل البحوث الاجتماعية والدراسات النفسية والتربوية حول خطورة وآثار هذه الظاهرة المجتمعية البغيضة، وإيجاد الحلول الناجعة لها في قالبها العلمي الرصين.