د. حمزة السالم
انحصرت معركة معاهدة برتن وود السياسية والاقتصادية، والمفاوضات التي سبقتها بين رجلين اثنين. هما اللورد البريطاني كينز الاقتصادي السياسي الدبلوماسي الشهير عالميا الذي كان يقول «لا أحد يضع الجينه البريطاني في الزاوية»، وبين الأمريكي هاري وايت المغمور الذي كان يريد تتويج الدولار الأمريكي.
وقد أُبعد وايت عن المشاركة الرسمية في الوفد الأمريكي. فقد سبب عليه ذكاؤه تصادمه مع الآخرين وجلب له الغيرة وحسد الأقران وغير الأقران، وجلب نقمة الخلاف عليه. فلم يحضر هاري وايت المؤتمر إلا كمستشار في اللجنة الفنية للوفد الأمريكي، دون أن يُمنح أي مسمى مُشارك في المؤتمر الدولي. ولكنه مع ذلك استطاع أن يقود المؤتمر بمن فيهم الوفد البريطاني للتصديق على المعاهدة التي صممها هاري وايت من ألفها إلى ياءها.
وقد كان هاري يواجه صعوبات نفسية كذلك. فقد كان السياسيون والاقتصاديون في واشنطن يتجاهلون ذكر اسمه عند تبني آراءه واقتراحاته ولا ينسبونها له، إلا أن أحدا منهم لم يجرؤ على الاستهانة من شأنه وعدم الاعتراف بذكائه وعبقريته.
كما كان هاري يواجه صعوبة عدم الأمان والخذلان من رئيسه، الذي كان يتعذر بالمرض تهربا من مقابلة كينز خوفا من مناقشته علميا. وأما الكونجرس، فقد واجه هاري وآراءه والمعاهدة بمعارضة شديدة، واتهمها بأنها حيلة بريطانية لسرقة ذهب أمريكا.
وفي المؤتمر تجنب وايت ذكر الدولار مطلقا، وبدلا من ذلك ركز وايت في النقاشات وفي كتابة الوثائق على عبارة «عملة قابلة للتحويل للذهب». بينما أوهم دون قصد الدولار، عن طريق التركيز على النقاط المتفق فيها مع كينز. كتجنب إعادة ربط العملات بالذهب وربطها بدلا من ذلك بعملة جديدة يتحكم بها بنك مركزي دولي جديد، والذي كان كينز يريد أن يجعل موقعه في لندن. وللإمعان في الإيهام، قام وايت بعمل تصميم لصندوق النقد الدولي، وكتب نفس مفهوم آليات كينز في ربط الدول عملاتها بالعملة الجديدة ولكنه لم يحددها «بالبنككور» العملة الجديدة، التي يريدها كينز أن تكون مرجعا للعملات الأخرى. وكنوع من غسل العقول، أكد وايت أن أمريكا تتمتع بأعظم احتياطي ذهبي للدولار وتستطيع دعم العملة الجديدة التي يقترحها كينز، دون أي إشارة للدولار بأنه المقصود ليكون هو عملة الاحتياط الجديدة.
وأثناء ذلك، حرص وايت على إشغال وقت اللجان الفنية بأحاديث ونقاشات وخلافات هامشية لإضاعة الوقت. حتى جاءت اللحظة المناسبة. ففي أحد الاجتماعات الفنية قام مفوض الوفد الهندي فاعترض على ضبابية عبارة «عملة قابلة للتحويل للذهب» قائلا «لو يشرح لنا الأمريكان ماذا يعني عملة قابلة للتحويل إلى الذهب» فاستخدم وايت استراتيجية الكبت وذلك بالايحاء الساخر للمجموعة المتفاوضة بأنه المفاوض الهندي لا يفهم، ثم وبسرعة فتح المجال لأحاديث عامة أو غيرها لإضاعة الوقت ثم لعب على وتر النرجسية والإدعائية الكاذبة فوجه الحديث الفصل لرئيس اللجنة المفوض البريطاني، الذي تعالى بفهمه عن المفوض الهندي فقال بتأثير إيحاءت وايت عن ذهب أمريكا، -ظانا البريطاني أنها مسألة هامشية- فقال «إنها مسألة مُحاسبية، كالدولار مثلا، ويكفي أن تحول المسألة إلى اللجنة المحاسبية». وهذا ما كان يريده وايت ويخطط له. فقامت اللجنة المحاسبية بأخذ كلام رئيس اللجنة المفوض البريطاني على أنه توجيه رسمي، بلا أي معارضة من الأعضاء، فقاموا بتغير كل الوثائق الرئيسة وأُبدلت عبارة «عملة قابلة للتحويل للذهب» بكلمة الدولار.
ونجاح خطة التصديق على المعاهدة كانت تعتمد على أن أعضاء اللجان لا يقرأون، وأنهم أكثرهم تابع لا مستقل، أي بصمجي، وأن الجميع يتبع كينز، وكينز لم تُعرض عليه المعاهدة إلا في الجلسة الأخيرة، فاضطر أن يصادق عليها ويباركها دون قراءتها، اعتقاد منه بأن أساسها الجوهري لا يختلف عن مقترحه. وما درى هو ولا أحد من الوفود حتى الوفد الأمريكي -ما عدا وايت - أن تلك الجلسة - على حد تعبير المؤلف- قد توجت الدولار على عرش العملات، ومن ثم تعدت طموحات هاري وايت وحدود تصوراته، بعد موته فأطاحت بالذهب.
قصة هاري وايت لم تخرج إلا حديثا. فقد نُسبت نتائج برتن وود للبريطانيين ولفارسهم كينز، فقبلوا بهذه النسبة بدلا من أن يُكشف استغفالهم للعالمين. فيا ترى كم من استغفال وقع، هنا وهناك، لم يظهر خبره قديما ولن يُكشف عنه حديثا.