هل آن وقت محو الذاكرة هذه التي لم تعد تنجد ؟ وهل الأدوات القديمة لنا نحن القادمين من رحم الأحلام معطِلة ، ولأن كانت وهبتنا العون ذات حين فهي لن تفعل الآن ولن تقودنا الخرائط القديمة إلا إلى المزيد من الضياع والشعور بالشتات .
ليس من مظلل أقوى من الذكريات وكأنها تستدرجنا نحو العش الخالي من كل شيء إلا من الحنين وحيث ما عاد هناك من شيء سوى التأمل هذا إذا ما امتلكنا لحظة السكون والنفاذ إلى قلب العالم دون منغصات .
و لا أحد هناك وحدنا نحن الذين نرفض تصديق التحولات ونحتمي بما نمتلك حتى ذلك الذي تجاوزه الزمن .. ذلك الشيء العديم الجدوى الآن كالكتب مثلا. وكأننا نرفض تصديق أننا تبدلنا وأن الحياة أيضا تبدلت والمساحات التي كانت لنا كلها ما عادت لنا إنها لكل المقيمين والعابرين والذين لم نعرف وربما لن نعرف ولم يعد أحد يمتلك رفاهية : أنا ، والزمن زمن الـ نحن ..نحن جميعا .
ولقد ظلت لي وربما لنا جميعا « ظلت « الكتب أحد أهم أدوات الدلال والتميز الذي كنا نظن أنه يجعلنا بمنجاة من التشابه مع الآخرين ويجعلنا أغنياء بما نمتلك , الكتب التي كانت لنا أولى الضلالات عرشها يسقط الآن ,والآن بحسرة نتذكر كم سافرنا من أجلها وكيف كانت أجمل هدايانا لمن نحب ، ولكم خاتلنا رجال الجمارك وتحايلنا على الكثيرين منهم وكم بدلنا أغلفة وكذبنا من أجلها وأقسمنا أنها لنا وحدنا ، كل هذا انتهى الآن والكتاب مثلنا ينتمي إلى زمن يتبدل زمن الحبر والورق والرفوف التي بحملها تنوء كجنى لم يعد مستساغا.
واليوم أنا أتخفف من ذكرياتي و ذاكرتي من مكتبتي وكتبي، من حصادي الذي جمعته على مدى الثلاثين عاما وأكثر.. أتخفف منه كله إلا القليل جدا القليل الذي يكسر بياض الجدار ويؤسس للغفران.
وأصدقائي الكتب الذين كنت أجالسهم وكنا معا نمحو اللون واللسان والمسافة يغادرون الآن , وقبل أن يرحلوا يحملون معهم ما تركت لهم مني ويستبقون لدي ما وهبوني من القلق ..ما تركوا لي من العطب وما من قيد كالمحبة.
اليوم أودع وأوزع ذاكراتي على الأصدقاء والراغبين والذين ما زالوا يظنون أن المعارف في الكتب ، بالطبع تمنيت لو أحرقتها فهذا أقل كلفة وأقل راحة للضمير ولكن صدقا أعوزني المكان لذلك ، وفي المدن لا نعرف حتى كيف نمحو ذاكرتنا بثمن بخمس وكل شيء مكلف جدا حتى التطهر بالنار.
وعلى ما تبقى مني سأقيم مزاد للذكرى ..مزاد على الأيام الطيبة أيام اليقين الذي خذلني في نهاية الطريق.
والآن وهم يعودون أقول لهم شكرا ..لقد وهبتم حياتي القيمة ولكن لا خالد في الحياة إلا خلود التحولات.