لطالما سألت نفسي فيما يتعلق بتصنيف البشر, وتقييمهم: من له الحق المطلق في تقييم الآخرين في الأمور العائدة إلى الذوق خاصّة؟!
ولما وجدت أننا بوصفنا بشرًا لا نعي ذواتنا إلا من خلال المقارنة الاجتماعية؛ إذ يكون الآخرون هم المعيار الذي نستخدمه للحكم على الصفات والقدرات؛ لأنه لا توجد معايير موضوعية للحكم, احترمت الاختلافات، ولم أجعل منها خلافًا, ورفضت الوصاية والتقييم ما دمنا بشرًا سواسية في كل شيء إلا الأذواق.
عقب جلسة من الجلسات التي تجمع بين المتميزين والناجحين سُئل أحدهم عن رأيه في واحدة من الشخصيات الناجحة والمحبوبة، فقال عن صاحبها: عادي.
- كيف عادي؟
- لا أعرف لكن لم يقنعني!
- ما المعيار الذي قست عليه؟
- لا يوجد معيار، لكن لم يرق لي.
الغريب أن أمثال هذا الشخص، ممن يطلقون الأحكام حسب أذواقهم، لا يمكن أن يشُكُّوا في أنّ الخلل منهم, ولا علاقة له ببعد رؤية, وكثير خبرة.
ماذا لو كانت تلك الشخصية كما يقال: (نفسية) أو مزاجية، أو حتى حاقدة على كل نجاح بغية التفرد؟!
بعض الناجحين مثلاً لا يسعدهم نجاح الآخرين, وإن ادّعوا غير ذلك!
ستقرأ ذلك في ردود أفعالهم, وملامح وجوههم إذا ما فوجئوا بخبر سعيد يخصك, أو نجاح أحرزته.
هؤلاء يهربون للظل مع أوهامهم, يستمرئون خداعهم لأنفسهم بأنهم يستحقون كل صيغ التفضيل؛ لأنه ليس في هذا الكون من يشبههم.
يبتعدون عن أخبار النجاح التي تخص غيرهم, ويهربون حتى لا توجعهم الأخبار السارة, وتهز شيئًا من أوهامهم التي يتفيؤون ظلالها في منفاهم الاختياري الذي يغلفونه زورًا بالغموض, وهم يضربون من تحت الحزام، ويمروون السوء بالتقليل من شأن غيرهم من خلال الآخرين.
هؤلاء هم أعداء النجاح الحقيقيون, وإن تزيوا بزي الوقار والحكمة والعلم والحلم.
مَن لا يرى تميُّز غيره, ومَن يُتعبه نجاح الآخرين, هو مريض في ذاته وإن تظاهر بغير ذلك, وينطبق عليه قول الشاعر:
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍ مريض
يجد مرًا به الماء الزلالا
مَثَله كمثل المريض الذي يجد الماء الزلال مُرًّا من مرارة فمه.
هذا النوع من المرضى لا يعلم بأنّ ذمه للمتميز من نقصه, وقلة معرفته بما عند غيره من مساحات للجمال, والتميز.
لحكماء المجتمعات رأي حكيم في الغطرسة في تصنيف الآخر؛ إذ قالوا: «من شاف الرجال جبال شافوه جبل, ومن حقر الرجال حقروه».
هذا الميزان الأخلاقي السامي يعرفه كل عاقل وإن لم يبلغ الحلم, ويغيب عن الناقص لنقصه.
هذا هو حال المتغطرس!
رؤيته للأمور لا تتجاوز أرنبة أنفه, محدود الفكر, والرؤية, يستر جهله بالغطرسة, وصعوبة الذوق, وهو في حقيقة أمره واقف في مكانه, لم ينفض عنه غبار الأمس.
عبره الصغار وكبروا, وهو ما زال في برجه العاجي, يراهم صغارًا، ويرونه بالمثل.
فالمسافة واحدة للرؤية، والمعطيات مختلفة.
هو ما زال ينظر لهم من علو, ويشك في أنهم قادرون على الوصول, وهم ساروا حتى وصلوا إلى ما هو أبعد منه, فصارت الرؤية واحدة، والزوايا مختلفة.
هؤلاء لا علاج لما هم فيه من غي إلا تذكيرهم بين فينة وأخرى بأصلهم, ومحاولة إعادتهم لوضعهم الطبعي؛ حتى لا يتعاظموا, ويتناسوا أصلهم الطيني.
حقيقتهم لا تبعد عن قول القائل:
نَسِيَ الطِّينُ سَاعَةً أَنَّهُ طِي
نٌ حَقِيرٌ فَصَالَ تِيهًا وَعَرْبَدْ
وَكَسَا الخَزُّ جِسْمَهُ فَتَبَاهَى
وَحَوَى المَالَ كِيسُهُ فَتَمَرَّدْ
يَا أَخِي لاَ تَمِلْ بِوَجْهِكَ عَنِّي
مَا أَنَا فَحْمَةٌ وَلاَ أَنْتَ فَرْقَدْ
- د. زكيّة بنت محمّد العتيبي