أحمد الدويحي
حرضني سؤال صحفي، المضي في تخيل رؤية واقع ثقافي ومجتمعي قادم، نأمل أن يكتب الله لنا حياة لنكون جزءا منه، السؤال يتعلق بما جاء في كلمة سمو ولي ولي العهد لرؤية السعودية لعام 2030 م، وحول ما أسماه السؤال الشح في الخدمات الثقافية، وهل يعني أنه سيكون هناك اهتمام بأهمية الثقافة، وكيف سنرى هذا الحلم المستقبلي؟
وكان جوابي المباشر على السؤال، ( أن كلام الرجل واضح وجلي، ولا يحتاج إلى تأويلات، وتخرصات بعيدة عن الواقع)، حضرت الشفافية والصراحة في حديثه، وهو يطرح رؤية مستقبلية جديدة وغير معتادة، تعني بمستقبل الأجيال القادمة، وكيفية استثمار معطيات الوطن الثقافية، دينية وتاريخية وجمالية عبر المواقع والمعالم المشهودة، وإذا تجاوزنا ما أسماه بالمتحف الإسلامي بالرياض، وضرورة وجوده في بلد يعد قبلة للمسلمين في كل جهات الأرض، فإنه في ما أسماه بالتحولات الثقافية والترفيهية، يطرح رؤية لتحولات شاسعة في هذه القطاعات الحيوية، لمجتمع يتوق إلى التغيير والتحول والحداثة، الحداثة التي تأتي من داخل ثقافة هذا المجتمع، وتراثه العريق الذي تعرض إلى تزييف عبر عقود استلاب الصحوة، باستثمار المواقع الدينية في المدينتين المقدستين، وقد توفر لهما كثير من مستلزمات التنمية وبنيتها التحتية، لكونهما هدفا سنويا للزائر والمعتمر، وتحتاج فقط إلى رؤية جديدة واستثمار ثقافي، وهناك المعالم التاريخية الممتدة في وطن بحجم قارة، تمتد من مدائن صالح شمالاً إلى أرض الأخدود جنوباً، وكلاهما أرض حضارات كما هي أراضي الوطن كله، هناك الأراضي المقدسة غرباً بتاريخها الإسلامي وشواهدها التاريخية والحضارية، وهناكـ المدن الشرقية الحديثة كبوابة لشواطئ الخليج، وهجر بما لها من إرث تاريخي وحضاري.
كثير مما يمكن قوله عن المعالم التاريخية والأثرية في كل جهات الوطن، وكنت بالمناسبة قد شاهدت قبل أسبوع للـ (كشاف) الكويتي، فيلماً وثائقياً مدهشاً عن مدائن صالح، كان يحمل أوفى تدفق معرفي، قرأته أو شاهدته كل عمري، أنجز عن هذا المعلم التاريخي الحضاري، يحدث هذه في غياب المعلومة المعرفية، غيابها عن المناهج التعليمية، وغيابها عن الوسائل الإعلامية المحلية، وربما إدارات المعالم وهيئة السياحة ذاتها، وربما الجهات الأخرى ذات العلاقة، فلا تملك منشورات ووثائق يمكن عرضها على المتلقي، فالإنسان ذاته غائب الحس عن مثل هذا الفعل الثقافي بكل أسف، والإنسان ذاته المعني بهذه الرؤية، هو الذي سيضع الحلم وسيحيله إلى واقع ثقافي ملموس.
وفي الجانب الترفيهي في الرؤية، ونحن نشاهد هجرة الطيور المسافرة في كل موسم صيف، تهاجر وكأننا في نزوح جماعي للمجتمع، يستهدف البحث عن أماكن مريحة عند كل إجازة خارج الحدود، توفر له متنفسا وسينما ومسرحا وترفيها بريئا، دون عين رقيب متسلط ومؤدلج، يفرض وصايته وسلطاته ولنا في تجربة المراكز الصيفية خير مثال، ولكن قبل هذا والعين والبوصلة تؤشر إلى أرضي الجنوب، ذات المناظر الخلابة والهواء العليل في الصيف، وهي منطقة لا تحتاج فقط إلى تهيئة المجتمع، ليكون مجتمعاً سياحياً بمعنى الكلمة مسّتثمراً، ومُستثمراً يبني ويشارك ويكون جزءا من هذه الرؤية، ويقبلُ بالسائح بقناعة مجتمعية، كالمجتمعات التي نشاهدها في رحلاتنا إلى الخارج ويتقبله، ويضاف له الإغراء بالأمسيات الثقافية والفنية، وتحتاج أيضاً إلى إسكان بأسعار مناسبة، وتحتاج إلى طرق ومواصلات وكهرباء وماء وكافة الخدمات الضرورية، فلا تكفي الطبيعة بدون تهيئة، لتكون أماكن جذب للسائح المحلي، فما بالك بالسائح القادم من خارج الحدود؟
حتما، هذه التداعيات الثقافية حول الرؤية ليست كل شيء، فالتطبيق على أرض الواقع، لا بد أن يواجه بمعضلات منتظرة، ونحن نخبر المجتمع الذي ظل مغيب، وعاني طويلاً من سطوة تيار متسلط، أختطفه عبر عقود وفرض عليه رؤيته، وأجندته حتى أصبحت مفردة الموت لديه، أكثر تداولاً معه من رؤية المستقبل.
وإذ أطوف بمخيلتي في هذا الفضاء المستقبلي، لاح في خيالي واقع المؤسسات الثقافية القائمة، واقع بائس هذا الذي ينتمي إليه جيلي في كل جوانبه بلا تحديد، فاحتشدت في ذهني أسئلة صريحة،ولم أجد إلا مساحات لملء الفراغ وتسجيل الحضور.