الحمد لله القائل{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}، والصلاة والسلام على رسول لله القائل «ما يُصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»، أما بعد:
فقد تكون الكتابة عن الأشخاص الذين يتحلون بكثير من الصفات والمزايا الحسنة من أصعب الأمور ولاسيما إذا كان هذا الشخص قريباً من القلب وساكناً في الفؤاد وتُعدُ مسيرة حياته مثالا للصبر والتحمل والعصامية والجود والكرم وصلة الرحم وحسن الخلق والوفاء، وكما قال البارودي رحمه الله:
ألا إن أخلاق الرجال وإن نمت
فأربعةٌ منها تفوق على الكل
وقار بلا كبر وصفح بلا أذى
وجود بلا مَنٍّ وحلم بلا ذُلِّ
ذلكم هو العم الشيخ عبد الله بن صالح بن علي العواد الذي انتقل إلى رحمة الله سبحانه وتعالى الأسبوع الماضي بعد وعكة صحية لم تمهله طويلاً، ورحل عن هذه الدنيا الفانية إلى جوار خالقه عز وجل وبقيت ذكراه وسيرته العطرة التي لازمته منذ أن عرفناه وهو على المنهج نفسه لم يتغير ولم تغيره تقلبات الدنيا وأحوالها وزخرفها وزينتها، أحبه الصغير والكبير، والقريب والبعيد، لطيبته ونقاء سريرته وشهامته وكرمه ولطفه وبشاشته ولين جانبه ووقوفه مع أقاربه وأحبابه وأصدقائه في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر عندما توفيت زوجة أخي الشيخ فراج- رحمهما الله- وهي في ريعان الشباب بعد حادث حريق مروع تعرضت له عام 1395هـ، وكانت منطقة مكة المكرمة تشهد أمطاراً غزيرة وسيولا جارفة فبادر بالذهاب بمفرده إلى محافظة رابغ لإبلاغ والدها قاضي رابغ آنذاك الشيخ إبراهيم الزغيبي- رحمه الله- بالأمر وإحضاره إلى مكة للصلاة عليها والمشاركة في دفنها وما زلت أذكر لحظة وصولهما في وقت متأخر من الليل مصحوبين بسلامة الله التي أنقذته أثناء ذهابه وحفظتهما أثناء العودة، وهذا غيض من فيض شهامته و تضحيته المنطلقة من المحبة الخالصة الصادقة التي قل أن نجد لها مثيلا في وقتنا الحاضر، حافظ أبا محمد- رحمه الله- على صداقته وعلاقته مع الجميع أصدقاء وأقارب، متنازلاً عن بعض حقوقه في سبيل ذلك ولم أسمع منه يوماً أي انتقاد أو ذم لأي إنسان، وكان يبادر بالاتصال والسؤال على جميع أقاربه وأصدقائه ملحاً عليهم في تلبية دعوته حريصاً على إكرامهم والاحتفاء بهم، ولم ولن أنسى عندما رافقت أخي د. عبد العزيز وأ.عبد الرحمن و ابن أخي د.محمد لزيارته في منزله- رحمه الله- قبل ثلاثة أشهر إصراره على الاحتفاء بنا وهو الأولى بذلك لمقامه وفضله وسنه، ولم يكتف بذلك بل أبدى عتابا شديداً على عدم الاستجابة ولم نجد سبيلاً سوى طلب تأجيلها لحين عودتي من السفر، إنه كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أخٌ طَاهِرُ الأَخْلاقِ عَذْبٌ كَأَنَّهُ
جَنَى النَّحْلِ مَمْزوجا بماءِ غَمَامِ
يزيد على الأيام فضل مودةٍ
وَشِدَّة َ إِخْلاَصٍ وَرَعْيَ ذِمَامِ
رحمك الله أبا محمد فلقد فقد الجميع برحيلك المفاجئ كثيرا من هذه الصفات وذلك فضل الله الذي اختصك به فأنت أنت على هذا المنوال منذ أن عرفناك، وعرفك جميع من زاملك في العمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم رئاسة شؤون الحرمين إنها أيام لا تنسى وأنت دؤوب مخلص في عملك طيلة بقائك وتنقلك بين هذين الجهازين المباركين نحو أربعين عاماً فخرجت منهما محبوباً من الجميع وحتى اللحظات الأخيرة وأنت تتولى آخر عمل بإدارة المتابعة بشؤون الحرمين كنت وفياً مخلصاً شاعراً بعظم المسئولية لما حباك الله به إيمان بقيمة الإخلاص ورغبة في إنجاز ما يسند إليك على أكمل وجه، وقد شهد بذلك المقربون منه- رحمه الله- ممن صحبه في العمل الوظيفي .فهذا معالي الشيخ الدكتور محمد الخزيم نائب الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام يحدثنا عن سيرته في اثناء دفنه رحمه الله فيقول عنه: إنه تمكن من إرضاء الجميع رغم طبيعة عمل إدارة المتابعة الحساس، وقد أكرمه الله بحسن الختام فقبل وفاته بشهرين لازم شقيقه الأكبر العم الشيخ محمد (أبا صالح) بالقصيم إلى أن توفاه الله ثم عاد بعد الانتهاء من مراسم الدفن والعزاء إلى مكة، وكان التأثر والحزن بادياً على محياه على فراق شقيقه رحمهما الله، وكما قال ابن رجب رحمه الله عن الخاتمة الحسنة( لا تقع إلا لمن كانت سريرته حسنة لأن لحظة الموت لا يمكن تصنعها فلا يخرج حينئذٍ إلا مكنون القلب)، وعلى مدى الثلاثة اعوام الأخيرة المنصرمة من حياتنا كانت هناك أحزان على فراق أحبة تتجدد، وهموم تحل وترحل، وآلام على فقدهم تتكرر، ودموع تجري لذكراهم، ودعوات في جوف الليل بأن يغفرالله لنا ولهم، وما بين هم وألم نفجع برائحة الموت من جديد فهل نعتبر!!؟.
كأنّ المَوْتَ لم يَفْجَعْ بنَفْسٍ
ولم يَخْطُرْ لمَخلُوقٍ بِبالِ
وأفجَعُ مَنْ فَقَدْنا مَن وَجَدْنا
قُبَيلَ الفَقْدِ مَفْقُودَ المِثالِ
يُدَفِّنُ بَعْضُنا بَعضاً وتَمْشِي
أواخِرُنا على هامِ الأوالي
فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنْتَ مِنهُمْ
فإنّ المسكَ بَعضُ دَمِ الغزالِ
أسأل الله أن يجعل قبرك يا أبا محمد روضة من رياض الجنة وأن يغفرلك يوم حشرك وأن يجبر مصاب زوجتك وابنك محمد وبناتك وأحفادك وأقاربك وأرحامك وأحبابك على فراقك، و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
محمد علي العقلا - مدير الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة سابقا