أ. د.عثمان بن صالح العامر
عرّجت الثلاثاء الماضي في هذه الزاوية «الحبر الأخضر» على إشكالية متجددة متجذرة، هي في نظر القيادات الأكاديمية والإدارية في جامعاتنا السعودية الناشئة من أشد وأقسى وأعقد التحديات التي تواجههم كل عام جامعي، ويحسبون لها ألف حساب، وإزاء ما هو أمر معيش في هذه الصروح العلمية الحديثة التي ما زالت في طور التأسيس والتكوين والبناء تباينت الاجتهادات التي تفتق عنها ذهن المسئول واتخذها منهجاً له في التعامل مع هذه المشكلة، ويمكن إجمال أبرز التصرفات في:
* التجاهل التام لهذه الإشكالية وكأنها لا وجود لها، والضحية الطالب الذي يحرم التخرج مع زملائه جراء تأخر نزول هذه المادة لعدم وجود أستاذ لها.
* الاستعانة بالمتعاونين- إن وُجدوا- خاصة في مواد العلوم الإنسانية أو الأطباء الذين هم على ملاك وزارة الصحة، وربما لم يسبق لهم أن مارسوا العمل الأكاديمي من قبل!!!
* تكليف عضو هيئة التدريس بإعطاء أكثر من نصابه المقرر بالضعف أحياناً، وهذا طبعا يرهق الأستاذ ويقلل من إنتاجيته وجودة أدائه كما هو معروف.
* دمج الشُّعب وجعل الأستاذ الواحد مقابل أربعين طالباً أو يزيد، خلاف ما هو معروف دولياً في التعليم الجامعي.
* الاضطرار لتكليف المعيد والمحاضر بإعطاء محاضرات وأخذ نصاب تدريسي كامل!!!
* تأجيل فتح أقسام وتخصصات يحتاجها السوق وعليها طلب؛ لصعوبة توفير أعضاء هيئة تدريس، خاصة في شطر الطالبات.
* جعل الأساتذة الرجال يدرسون الطالبات عبر الشبكة، مع أن المادة ذات بعد عملي وتحتاج إلى الشرح التطبيقي أكثر من كونها مجرد معارف يمكن تحصيلها عن بعد .
كل هذه الحلول التي لجأ إليها مجبراً متخذ القرار، سواء أكان هذا القيادي مدير الجامعة أو وكيلها للشئون الأكاديمية أو عميد الكلية أو رئيس القسم أو ... وجزماً يعرف هذا القيادي أنها ليست هي الحل الأمثل الذي ينشده ويتطلع له، ولكن «مكره أخاك لا بطل» وهي في النهاية في قاموس هؤلاء الأكاديميين المختصين والإداريين المبرزين مجرد مسكنات لا تعالج المشكلة من جذورها، ولا تنفي أن مديري هذه الجامعات يشعرون أنهم أمام تحدٍّ سنوي لا يمكن التغافل عنه دوماً، وإن تُجوهل سنة وأخرى لسبب أو لآخر.
ومن الحلول الناجزة في نظري :
* تعزيز الجامعات الناشئة بوظائف أكاديمية أكثر من المقرر لهم من قبل، ولو على حساب الجامعات الكبرى، وتخصيصها للتخصصات الصحية أولا ثم الهندسية ثم المالية والاقتصادية وهكذا.
* وجود لجان دائمة لاستقطاب المميزين من خريجي برنامج خادم الحرمين الشريفين للتدريب والابتعاث، وإعادة النظر في قبول المعلمين والموظفين الذين هم على رأس العمل، واصطفاء من كان منهم متميزاً ويعدّ في نظر أساتذة التخصص إضافة نوعية للقسم، والكادر التدريسي بحاجة لخدماته، وإعطائه داخل أروقة الجامعة فصلاً دراسياً كاملاً للتأهيل والإعداد.
* تثبيت البدلات الموجودة، والتفكير بمعززات مالية ومعنوية أكثر تضمن رغبة عضو هيئة التدريس في البقاء في الجامعة، بل انتقال غيره لها من الجامعات الكبرى في المدن الرئيسة.
* إقرار مدارس أهلية وعالمية تابعة للجامعة تتيح لأبناء أعضاء هيئة التدريس- خاصة غير السعوديين منهم- إلحاق أبنائهم بها ، إذ إن بعض المناطق التعليمية لا يوجد بها حتى تاريخه مدارس خاصة متميزة تقدم تعليماً نوعياً تطلبه شريحة الأكاديميين بقوة، بل يعدونه شرطاً أساسا ومهمّا لإبرام عقد التعاقد معهم للتدريس في الجامعة.
* الإسراع بتشغيل المستشفيات الجامعية، علّها أن تقدم خدمات صحية جيدة لأعضاء هيئة التدريس في هذه الجامعات، فضلاً عن المواطنين والمقيمين في هذا الجزء من الوطن الغالي.
* توفير السكن الملائم لعضو هيئة التدريس الوطني والمتعاقد، أو إقرار بدل السكن مؤقتاً حتى يتسنى الانتهاء من مشاريع البنية الأساسية في المدن الجامعية التي تعدّ عنواناً من عناوين التقدم والرقي في بلادنا الغالية.
* دعم الاتفاقيات الدولية والمحلية التي تتضمن التعاون الأكاديمي وتدريس بعض المواد من قبل أعضاء هيئة التدريس في جامعة «الطرف الثاني».
* تفعيل ما يعرف بالطالب الزائر والأستاذ الزائر بين الجامعات، وهو ما تنص عليه لائحة وزارة التعليم العالي التي ما زال العمل بها جاريًا .
هذا ما عنّ لي في هذا الملف المتجدد الذي يحتاج إلى دراسة مستفيضة تقدمها الجامعات الناشئة لمعالي وزير التعليم، وتدرس -على ضوء ما يقدم- الفرص والتحديات بشفافية ومصداقية ووضوح، حتى نضمن جودة المخرجات واستمرار الدراسة في التخصصات التي يحتاجها سوق العمل داخل أروقة هذه الجامعات بدون معوقات وصعوبات.
أعلم أن هناك من سيقول إن هذا الطرح قد لا يتوافق والوضع الذي تمر بها بلادنا الغالية المملكة العربية السعودية هذه الأيام، ومع وجاهة هذا الاعترا ض فإنني أرى أن موضوع الجامعات الناشئة من المشاريع المفصلية التي تستحق أن يكون لها الأولية في الدعم والمؤزرة فهي بحاجة إلى الالتفاتة التصحيحية الواعية لدور هذه المؤسسات الأكاديمية والمدن الجامعية «التنموي والتعليمي والمجتمعي» في مناطق المملكة المختلفة، ومن أجل مستقبل تعليمي أفضل لطلاب وطالبات هذه الجامعات، حفظ الله الجميع، وسدد الخطى، وحقق الآمال، ووفق قيادتنا الحكيمة ومن خلفهم شعب المملكة الطموح والمتفائل لتحقيق رؤية 2030 واقعاً معيشًا ننعم في ظلالها بالأمن والأمان ورغد العيش والاستقرار، ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء والسلام.