أ.د. عبد الله بن علي الحصين
لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن له تركة وميراثاًَ, لا يمكن أن يختص بها إلا من أراد الله به خيراًَ, وإن هذا الميراث ليس كميراث البشر ديناراًَ أو درهماًَ, وإنما هو ميراث العلم الذي من أنعم الله عليه به فقد أنعم الله عليه بخير عظيم؛ حيث قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر).
إن أجلّ ما تصاب به أمتنا هو فقدها لعالم فذٍّ، وشيخ جليل, فإن فقد العالم ليس فقداًَ لشخصه, ولكن فقداًَ لجزء من ميراث النبوة.
وهذا هو حالنا مع فقيدنا معالي المربي والعالم الجليل والوالد المعطاء فضيلة الشيخ محمد بن عبدالله بن عوده السعوي, ففي صبيحة يوم الخميس 2 / 4 / 1437 هـ الموافق 4 / 2 / 2016م جاءني خبر وفاة والدي وشيخي. هذا الخبر الذي لم يؤلمني فقط بل إنه آلم جميع من اتصل أو خالط فضيلته طيلة فترة حياته بجميع مراحلها. فنحن أمام عالم جليل من طراز فريد، ممن يتمتع بالأخلاق الفاضلة، والشخصية المتزنة في أقواله وأفعاله وسلوكه، كما يتميز عمله بالإتقان. فهو عالم لا يملّ مجلسه، سمح البال, مهذب في حديثه، صادق الودّ، كثير البذل, كثير التواصل مع ذويه وأقاربه، صاحب جاهٍ مبذولٍ لا يبخل به.
ومع هذه الصفات الشخصية التي يندر أن تجدها في غيره رحمه الله, تقلد عدداً من مناصب الدولة الكبيرة سواء في القضاء، أو هيئة كبار العلماء، أو وزارة العدل.
فأمام هذا الحدث الجلل وأمام هذه الشخصية البارزة يحتار المرء من أين سيبدأ، فعلاقتي بمعاليه ضاربة في الجذور إلى أقصى مدى، وممتدة لعقود طويلة. وفي خضّم هذه الحيرة رأيت أن أبدأ مع بداية عملي الرسمي معه رحمه الله تعالى برئاسة تعليم البنات, ففي أواخر عام 1404 هـ حيث جئت للتو من أمريكا، وأعمل يومها كأستاذ مساعد في جامعة الملك فيصل بالأحساء جاءني اتصال منه رحمه الله يطلب مني العمل معه كمستشار تعليمي في رئاسة تعليم البنات؛ حيث تم تعيينه رئيساًَ لها قبل عام تقريباًَ من اتصاله, وبلا تردد أو ممانعة وافقت على ذلك لمعرفتي بشخصه الكريم، ورغبتي في الازدياد من بحر علمه، وسعة أدبه، والقرب منه، لأنهل من هذا المعين الذي لا ينضب, وبالفعل بدأت عملي معه رحمه الله بنهاية عام 1404 هـ بمقر الرئاسة العامة لتعليم البنات بالرياض، وأذكر بأن إجراءات تهيئة مكتب خاص بي لم تكتمل بعد من قبل الرئاسة فما كان منه رحمه الله إلا أن تنازل عن غرفة المختصر داخل مكتبه لتكون مكاناً أعمل من خلاله, وهنا يتضح للجميع ما كان عليه الشيخ من تواضع ومدى إيثاره وبساطته رحمه الله تعالى. وكنت كلّما دخلت أو خرجت من مكتبي أجد مراجعين كثر، كل له حاجة يودّ قضاءها, وكان بعضهم يرفع صوته عالياً ويحتدّ على معاليه - رحمه الله - فما يكون منه إلا مقابلة هذه الحدّة بالأناة، وطول البال، وأخذ الأمور مأخذ البساطة والحكمة، وكان دائماً يردد «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما انتزع من شيء إلا شانه» - رحمه الله - ولعل ذلك يشهد به جميع من خالط فضيلته طيلة حياته، فكان - رحمه الله - أباً عطوفاً على الجميع، لا يكلُّ ولا يملُّ في خدمة كل من يلجأ إليه، ويقدم له يد العون بكل إخلاص وتفانٍ، ودون منّة أو إحجام, فله أيادٍ بيضاء على جميع من كان قريباً منه رحمه الله وغفر له.
ومن خلال عملي مع فضيلته كمستشار تعليمي رأيت بأن هناك عدداً من المستشارين الآخرين منهم التربوي، ومنهم القانوني متواجدون في كلٍّ من مكتب معاليه، ومكتب سعادة نائب الرئيس العام، ومكتب سعادة وكيل الرئيس العام، وكانت كثير من هذه المعاملات تدور بين المكاتب الثلاثة مما يهدر وقتاً للانتهاء منها, كما أنه يحدث أحياناً جدلاً طويلاً من خلال رؤية أحد المستشارين لقضية معينة ويتشبث الآخر برأيه، وهو ما يتسبب في تأخر بعض المعاملات والضحية في هذا هو المواطن, فتقدمت لمعاليه باقتراح بضمّ جميع هؤلاء المستشارين بإدارة واحدة فما كان منه رحمه الله إلا أن تحمس لهذا المقترح، وتواصل مع اللجنة العليا للإصلاح الإداري لبحث هذا الأمر ومدى ملاءمته لهيكلية الرئاسة وتطويرها الإداري، وتمت موافقة اللجنة على هذا الاقتراح وبالفعل أصدر معاليه قراراًَ بإنشاء الإدارة العامة للمستشارين، وكان ذلك في عام 1404 هـ، ومازالت هذه الإدارة قائمة تحت مسمى الإدارة القانونية ،وقبول وتحمس معاليه لإنشاء هذه الإدارة في ذلك الوقت (حيث من النادر أن تجد إدارة بهذا المسمى بجهاز طابعه ديني) يدل على بعد نظره الإداري، وترجيح المصلحة العامة، وانعكاساًَ إيجابياًَ لمسيرته العلمية السابقة بوزارة العدل؛ حيث عمل وكيلاًَ لوزارة العدل، وكذلك عمله كأمين عام لهيئة كبار العلماء.
وكان معاليه - رحمه الله - يحظى بثقة كبار المسؤولين بالدولة وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله وغفر له -؛ حيث اختاره رئيساًَ عاماًَ لتعليم البنات بعد تقاعده كوكيل لوزارة العدل إذ وجد في شخصه الرجل المناسب في المكان المناسب - رحمهما الله وغفر لهما -. وتجلّت واجهة من واجهات تلك الثقة في توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - للشيخ ابن عوده بصفته الشخصية (وليس بصفته المهنية كرئيس عام لتعليم البنات) في بحث مزيدٍ من الأعمال التي يمكن أن تناط بالمرأة السعودية في المستقبل, حيث يتركز عملها في ذلك الوقت بالتدريس, وكعادته السمحة في إشراك المقربين منه فيما يعود نفعه على مصلحة الوطن والمواطن، فقد طلب مني تقديم مقترح لهذه الأعمال التي يمكن للفتاة السعودية أن تزاولها,.وبالفعل تقدمت لفضيلته بمقترح من شأنه أن يزيد عدد الموظفات السعوديات بالمدارس؛ حيث تبلغ عدد مدارس البنات في ذلك الوقت قرابة عشرة آلاف مدرسة, وكان اقتراحي يتلخص في استحداث وظيفة مشرفة صحية في كل مدرسه, وبالفعل راق لمعاليه هذا الاقتراح، وسعى بكل جدٍّ لتحقيقه إلا أن ظروفاًَ فنية وبيروقراطية حالت دون تحقيقه..
ومعاليه رحمه الله يتميز بالكرم والإحسان، فلم أعهده طيلة علاقتي معه - رحمه الله - أن جلس على الغداء منفرداً، فهو إما عازم أو معزوم؛ حيث يأنس بالآخرين، ويحب مجالسهم، ويستأنس للحديث معهم. أما جانب الإحسان في حياة الشيخ فمشهود له من جميع من عرفه, وقد حدثني أحد أقربائي, حيث كان يعمل لدي أحد وجهاء مدينة بريدة, ومن أكرمهم, بأن هذا الوجيه تعرض لضائقة مالية ألمت به في السبعينيات الهجرية، فما كان من معالي الشيخ محمد بن عوده رحمه الله إلا أن تقاسم راتبه الشهري مع هذا الوجيه إلى أن فرج الله عليه, رحم الله الجميع وغفر لهم وقد ذكرت هذه القصة لمعاليه إلا أنه لم يعلق بشيء والتزم الصمت..
وفي إحدى جولات معاليه التفقدية تشرفت بمرافقته لمنطقة جازان، وهالني ما رأيت من تسابق أهل هذه المنطقة الكرام, لإكرامه والظفر به لدخول منازلهم، وإكرامه والأنس به فسألت سماحة الشيخ عبد الله بن عقيل - رحمه الله وغفر له - عن سر هذا الإصرار في إكرام معاليه فقال لي فيما معناه: إن معالي الشيخ بن عوده ووالده سماحة الشيخ عبدالله بن عوده كانا موجودين في جازان لأعمال القضاة, ولهما فضل كبير على هذه المنطقة, حيث كانا يتمتعان بسمعه حسنة، وعدل وإنصاف، ولهذا يشعر الأهالي بمزيد من الحب لمعالي الشيخ ووالده - رحمهما الله وغفر للجميع -.
ومن الأشياء الجميلة التي لازمته عندما تقاعد من العمل في عام 1408هـ كان يجلس بعد مغرب كل يوم في مزرعته بالرياض، فلم أرى تغيراً في عدد ونوعية مرتادي مجلسه - رحمه الله - فلم يفقد شيئاً بعد التقاعد، واستمرت حياته كما هي, ومحبيه وقاصديه يتوافدون عليه بين الحين والآخر، واستمرت علاقته الحميمية بهؤلاء جميعاًَ من تواصلٍ ومحبةٍ وإخلاصٍ، ولا أدل على ذلك من زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله ورعاه لمعاليه قبل وفاته بأسابيع.
هذا من فيض بحر عذب ماؤه هو الوالد الشيخ/ محمد بن عبدالله بن عوده السعوي - رحمه الله وغفر له - ليس للبحث في مناقبه وكشف الستار عن فضائله ولكن هي محاولة لرد فضل وجميل وعرفان لرجلٍ قدّم لهذا الوطن عامة ولشخصي المتواضع الكثير. فسيرته الذاتية تعدّ تاريخاًَ حافلاًَ بالمآثر والمفاخر والاعتزاز، ومجلسه عامر بالأصدقاء والمحبين من العلماء وطلبة العلم والأقارب وذوي الحاجات. فهو نعم المسؤول والمستشار والوالد. أسأل الله أن يسكنه فسيح جناته، وأن ينزل على قبره نسائم رحمته وعفوه إنه ولي ذلك والقادر عليه.