د. محمد عبدالله الخازم
كتبت في المقال الماضي مقدمة عن خصخصة الخدمات الصحية بالتساؤل عن تعريف الخصخصة المقصود والنماذج التي يتم تداولها وعن أبرز تجارب تشغيل المستشفيات في المملكة، مختصرًا قدر الإمكان. أواصل الكتابة في الموضوع، بتأكيد الإشارة إلى ثلاثة مفاهيم يتم الخلط بينها، بالرغم من أنه يجب العمل عليها جميعًا كمنظومة تطويرية متكاملة. المفهوم الأول يتمثل في الخصخصة وهذه تعني نقل ملكية مؤسسات الدولة بشكل كامل أو جزئي للقطاع الخاص وفتح الأسواق للمنافسة. المفهوم الثاني يتمثل في آلية تمويل الخدمة الصحية؛ عن طريق التأمين الحكومي أو الخاص، عن طريق تأسيس صندوق وطني يتولى شراء الخدمات الصحية، أو بطريقة مباشرة كما هو حاصل الآن. بافتراض أن الدولة لن تتخلى عن توفير الخدمات الصحية للمواطن وفق دستورها الأساسي. المفهوم الثالث يتمثل في آلية التشغيل ومعايير الميزانية، هل يتم تطوير برامج التشغيل الذاتية لمستويات أعلى عبر تحويل الميزانية إلى ميزانية مرتبطة بحجم ونوع المخرجات مع مزيد من الاستقلالية التنفيذية؟ أم يتم العودة لنظام إدارة الشركات التجارية أو يتم تأسيس شركة - شركات حكومية أو حكومية أهلية لتشغيل وإدارة المستشفيات...؟
في الأعمال التجارية أو في المشروع الخاص الفردي، يتم التركيز على الأرباح المادية بالدرجة الأساسية، وتكون الكفاءة بتقليص المصروفات وزيادة الأرباح قدر الإمكان. الخدمة الصحية الوطنية ليست كذلك، وقبل البدء في آية فكرة أو برنامج خصخصة أو تشغيل أو تمويل للخدمات الصحية، يجب التمعن في إيجابياتها وسلبياتها وفق الآتي:
1. هل ستثقل الخدمة الصحية كاهل المواطن ماليًا واجتماعيًا؟ مهما يكن برنامج التأمين والتخصيص، فإنه لن يقدم خدمة مفتوحة دون تكاليف كما هو الحاصل في الخدمة الصحية الحكومية الحالية. لذلك مهم جدًا التأكَّد من حجم الفاتورة التي سيدفعها المواطن واستعداده لذلك.
2. هل سيخل البرنامج بتأهيل وإعداد وتطوير والاهتمام بالقوى العاملة السعودية وبجلب القوى الأجنبية المتميزة؟ كيف نضمن ذلك؟ أحد الملاحظات على تجربة تشغيل الشركات - التي أشرت إليها في مقالي السابق- هو إهمالها تطوير وتدريب القوى المحلية، وهي نفس الملحوظة في القطاع الصحي الخاص الحالي الذي تعد مساهمته في هذا الجانب متواضعة جدًا جدًا في التوظيف والتدريب والإعداد والتطوير.
3. هل سيخل البرنامج بعدالة توزيع الخدمات الصحية؟ الخدمات الصحية خدمة اجتماعية يجب أن تتوافر للمواطن في منطقته وبغض النظر عن مستواه المادي والاجتماعي؟ القطاع الخاص إسهامه قليل جدًا في المناطق الصغيرة لأن القضية تجارية بحتة تحكمها الأرباح. هل يتسبب البرنامج في تركيز الخدمة بالمدن الكبرى ذات الكثافة السكانية وزيادة الفجوة الحاصلة في مستوى الخدمات بين المناطق؟
4. هل سيخل بنوعية الخدمة؟ القطاع الخاص يقدم خدمات صحية عامة أولية في الوقت الراهن وليس بمقدوره تقديم خدمات تتقدم تتعلق بالأمراض المستعصية أو عمليات زراعة الأعضاء أو الأمراض الوراثية أو غيرها. هذا الواقع الراهن، حيث المؤمن لهم عن طريق القطاع الخاص يضطرون للعودة للمستشفيات الحكومية في الخدمات المتقدمة.
5. هل سيخل بالخدمات الصحية المساندة؛ مثل الخدمات الدوائية والإسعافية والطوارئ والحج والإقامة الطويلة وغيرها من الخدمات؟ الصحة أكبر من مجرد مستشفى ومبنى مستشفى.
6. هل يوجد لدينا هيئات قوية للتشريع والرقابة، قادرة على التعامل مع التغيرات المطلوبة؟ تجربتنا الحالية مليئة بالثغرات والسلبيات...
7. هل سترتفع فاتورة الخدمات الصحية؟ بالأرقام، الفاتورة الصحية للمملكة تأتي ضمن أقل 40 دولة على مستوى العالم وهناك أكثر من 200 دولة تصرف من دخلها العام أكثر من المملكة على الخدمات الصحية، وفق احصائيات البنك الدولي. نحتاج حلولاً تضمن الاستقرار على المدى الطويل وليس مجرد فقاعات على المستوى القصير..
الخلاصة؛ التطوير في مجال ذي بعد اجتماعي تنموي خاص به كالصحة، ليس مجرد عملية مادية، تحسب بما توفره من موارد مادية على الدولة، بل له أبعاد أخرى يجب التفكير فيها وفق المعايير أعلاه. علينا دراسة مختلف الخيارات والتجارب - المحلية قبل الأجنبية- بشكل جيد، قبل التسرع نحو فلسفة قد تكون مناسبة للقطاع الصناعي ولكنها ليست مناسبة للقطاع الصحي بأبعاده المختلفة...
سؤال أخير؛ هل وزارة الصحة قادرة على القيام بالخطوة التطويرية المطلوبة، أيا تكن؟
الإجابة؛ لا. والحل المقترح في المقال القادم.