قد يكون التعامل الأكثر منهجية للأيديولوجيا هو التعمق في نصوصها المؤسسة لها، وأفكارها المتجذرة في مرحلة
التأسيس، وهذا يعني أن بتر الفكرانية -أيًا كانت هذه الفكرانية- عن مرحلتها التأسيسية يعتبر عيبًا منهجيًا لنقد الأفكار.
فالأيديولوجيا كل الأيديولوجيات لها منحيان في دراستها وهما: مرحلة التأسيس الفكراني، النصوصي خاصةً، ومرحلة التطور الفكري لهذه الأيديولوجيا، وكل تعامل مع الفكرانية دون استحضار هذين المنحيين فهو تعامل آني، يخضع لمرحلة زمنية ما، لأننا نوقن – بالمنظور الفلسلفي- أن الأيديولوجيا لها تأريخ فلسفي يقوم على أنقاض تأريخ فلسفي سابق لأيديولوجيا سابقة حتى و إن كانت دينية، وحتى تعطي هذه الأيديولوجيا مساحةً لمابعدها من الفكرانيات فلا بد وأن تأخذ حيّزها من التطور
والتغير؛ حتى و إنْ كان هذا التغير إلى الخلف و إلى الأسوأ لكنه يبقى تغيرًا.
و بهذا فإننا حينما نتعامل مع الأيديولوجيا الدينية و الفلسلفية والسياسية فإننا ملزمون معرفيًا بهذين النمطين. فالقومية والعرقية و الدينية و الليبرالية و الماركسية كلها أدلجات مرّت بمراحل تأسيسية تبعتها مراحل تطور وتغير، مما يجعلنا أن نستبعد أن تكون القومية في مرحلة تأسيسها التي انكفأت على ذاتها باعتبارها الأفضل من غيرها من القوميات هي ذاتها في مرحلتها الآنيّة التي آمنت بالتعددية بشكل كبير في فكرانيتها؛ لأن مراحلها التاريخية أثبتت لها أهمية هذه التعددية فتطورت وتغيرت، وهذا يعني أننا حينما ننقد القومية في مرحلتنا الآنية لا يمكن لنا أن نحيلها فقط إلى ما كتبه ميشيل عفلق –مثلًا- فحسب، بل نقارنها بما يكتبه عزمي بشاره في هذه المرحلة، كما أننا لا يمكن أن نكتفي بنقد النيوليبرالية على ما كتبه فوكوياما في (نهاية التاريخ) بل لا بد أن نستحضر (الحداثة السائلة) -مثلًا- . ومن غير الممكن أيضًا أن نخضع فكرانية الإخوان المسلمون على ما كتبه سيد قطب في (معالم الطريق) دون أن نقرأ ما كتبه راشد الغنوشي في (حقوق الإنسان)، ومن السطحية بمكان أن نحصر الماركسية بما كتبه ماركس و انجلز في كتابهما(البيان الشيوعي) و نتناسى ما تطورت فيه الماركسية فيما بعد، و هكذا، فإن الأيديولوجيا لها عمر تأسيسي و عمر تطوري تغيري تمر بهما.
و هذان المنحيان في النقد و المراجعة الفكرانية لا يعني أنهما يخصان المنتسبين إليها فحسب، بل هما خاضعان لغير المنتمي أيضًا ممن شارك في التغيير والتطوير عبر المرحلة التاريخية التي عاشتها تلك الفكرانية، فليس من الضروري –مثلًا- أن نعتبر مطوّر الفكرانية الماركسية ينبغي أن يكون ماركسيًا بل قد يكون ليبراليًا مناهضًا لها؛ وذلك عبر النقد والنقض، كما أنه ليس من المهم أن يكون مطوّر الفكرانية (الإخوانية) من الإخوان المسلمين ذاتهم بل إن التنويري أيضًا يكون مشاركًا في هذا التطوير والتغيير، مما يعني أننا أمام تعقيد في تحولات وتغيّر الفكرانية عبر زمانها منذ التأسيس حتى مرحلة ضعفها ونكوصها، وهذا التعقيد لا يمكن أن يجعلنا نسلّم بكل سهولة لمن يشتم الإخوان المسلمون -مثلًا- في مرحلتنا الآنيّة بما كان يكتبه سيد قطب في (المعالم)، كما أن هذا التعقيد لن يجعلنا أن نرتهن بمن ينقد العنف الموجود في (البيان الشيوعي) بأنه هو ذاته الماركسية المعاصرة. ولعل هذا التعقيد يحيلنا إلى البحث الأكثر عمقًا و الأكثر انزياحًا عن تمركزات النصوص المؤسِسَة.
- صالح بن سالم
_ssaleh_@