المتتبع للنتاج الروائي السعودي منذ «التوأمان» إلى يومنا هذا، سيلحظ أن الرصد البياني لتطور الرواية السعودية من حيث الكم في تزايد مستمر، خصوصاً بعد أن شهد المجتمع بروز سياقات ثقافية جديدة، وتطورات تقنية وإعلامية متنوعة، وقضايا جدلية واسعة في أعقاب حرب الخليج عام 1990، وكذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبرعام 2001، حين تبدلت رؤيتنا لذواتنا، وتغيرت علاقتنا مع الآخر المختلف تبعاً لتغير الظروف والأفكار، فاتجه البعض من كتّاب الرأي إلى هذا الفن الجديد؛ باعتباره شكلاً كتابياً مرناً يطرحون من خلاله مختلف مواقفهم المناهضة للسائد المألوف والمعاكسة للتيار، وتلك التي لا يستطيعون الإفصاح عنها في القنوات الثقافية الرسمية، حتى دخل في خندق الروائيين من ليس منهم، وباتت بعض الكتابات - في محتواها - أشبه ببرامج الرأي والرأي الآخر، وصار من أهداف الكتابة الروائية في مشهدنا الثقافي عند بعضهم أن يقرع الفكرة بالفكرة، والحجة بالحجة، وشواهد ذلك كثيرة حاضرة.
كان ذلك واحداً من أهم أسباب الكتابة الروائية في العقدين الماضيين، إلى جانب سبب آخر لا يقل أثراً عن سابقه، حين عمد كثير من الكتّاب والكاتبات، الشباب منهم بخاصة، إلى نشر رواياتهم طلباً للشهرة، في ظل وجود الهالة الإعلامية الضخمة، والإشادة العريضة من بعض الرموز الأدبية للروايات المتمردة التي كشفت المستور، واستنطقت المسكوت عنه، وتوغلت في المحرم الاجتماعي بشكل سافر وجريء، فتلقفتها الأيادي الغضة، والعقول المندهشة في معارض الكتاب وفي المكتبات وعلى صفحات الإنترنت، واستغلت دور النشر هذه الحالة الثقافية الهائجة، فروجت لروايات لا تصل في أعلى رتبها، إلى أدنى مستوى من «الإبداع الفني» الذي نراه في النماذج العالمية، أو حتى في النماذج العربية الأخرى، فامتلأت المكتبة «السعودية» بروايات هزيلة، كانت ظاهرة الإسفاف فيها غالبة على أي ظاهرة أخرى يمكن دراستها أو بحثها أو الاستمتاع برصدها. والحق أنه لا يمكننا وضع كل ما أنتجه الروائيون السعوديون في حكم الهزيل، أو حتى العادي، إذ من الإنصاف القول إن لدينا نماذج روائية فريدة ورائدة في تجربتها، ولا أصدق على هذا من تصدر بعضها لجوائز عالمية على مستوى الوطن العربي، كروايتي «ترمي بشرر» لعبده خال، و»طوق الحمام» لرجاء عالم، وكذلك ما أنجزه يوسف المحيميد من روايات حازت إحداها وهي «الحمام لا يطير في بريدة» المركز الأول في مسابقة أبي القاسم الشابي في تونس، على أن تلك النماذج، في مواضع ليست قليلة، طرحت أفكاراً ومضامين على هامش سردهم القصصي، مما يدل على أن هؤلاء الروائيين - أيضاً - قد انصاعوا - ولو قليلاً - لرغبات قرائهم في العثور على ما يخالف السائد، لأجل هذا فقد كان السؤال الملح هنا هو: هل الرواية السعودية بهذه الصورة المجملة رواية «صنعة» أم رواية «ردة فعل»؟!
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من التفريق بين الصفتين؛ فأما رواية «ردة الفعل» فهي ما أشير إليه في بداية المقال، حيث يرى بعض كتّاب الرواية أن المشهد الثقافي السعودي ميدان تتنازعه أطراف أيديولوجية متباينة، وأن النص الروائي بكل أبعاده وتأثيراته أحد أقوى الأسلحة لإحراز التقدم على المخالفين في مضمار الأفكار، ولذلك فإن بعضهم لا يجد عنتاً ولا مشكلاً في خوض غماره، وادعاء أن ما يكتبه يصنف في إطار «الرواية الفنية»، وربما قدم نفسه في المحافل الثقافية، ووسائل التواصل الاجتماعي، على أنه «روائي سعودي».
أما رواية «الصنعة»، فليس المقصود بها ذلك المصطلح الشائع في تراثنا النقدي العربي المقابل «للطبع»، بل هي ما أسماه نجيب محفوظ «حرفة» الكتابة الروائية، التي تأتي نتيجة لالتحام الذات مع العالم، وهي تجربة تكتمل عناصرها بالمعايشة، بعض تلك العناصر يأتي من الإلهام، وبعضه من التنقيب، وبعضه من الملاحظة، والروائي الحقيقي هو الذي يكلم شخوصه، ويعيش أحداث قصته، ويتنقل في فضاءاتها، وكأنها حياة أخرى جديدة غير التي يعيشها على الحقيقة، يجتهد في سردها بعيداً عن الانتقام من خصوم المشهد الثقافي وتياراته، وبعيداً عن محاولة كسر المألوف، والمبالغة الفضائحية، حتى وإن لم يستطع التنصل والفكاك من ذلك تماماً، لأن مجتمعنا بتاريخه وجغرافيته، وماضيه وحاضره ومستقبله، موضوع مغر للقصة والرواية، ولسنا في حاجة لأن نقيم المعارك حتى نحصل على مادة مسوقة لأسمائنا، أو نشوه الواقع لننشر ما نؤمن به من أفكار مختلفة.
سُئل الروائي المصري يوسف إدريس عن كتابته للرواية فقال:
أنا لا أعبّر عن ضمير مصر، إنما أحاول أن أكون صادقاً، والصدق يعبّر عن ضمير الناس.
- د. حمد الهزاع
h.hza@hotmail.com
@HamadAlhazza