في لقاء تلفزيوني نادر للرجل القليل الظهور، الشيخ عبد العزيز التويجري- رحمه الله-، الشخصية الثقافية النوعية وكيل الحرس الوطني السعودي سابقا، انفعل بعضَ الشيء على سؤال العلاقة مع الفكر والتيار العروبي، مردداً نحن الجزيرة هنا معقل العروبة ومحتدها، ورغم الخلاف مع التيار القومي إلا أن الجسور الفكرية والثقافية ظلت ممتدة، بينهم وبين عبد العزيز التويجري، من أدباء التيار العروبي الذي يصعب عرض وضعه السياسي اليوم، لكن من المهم أن نُشير الى أن الفكر العروبي، مختلف عن بعض التيارات الأيدلوجية القومية التي عاشت صراعا مع فكرة الإسلام كباعث للأمة العربية، وأصرت انه لا يعدو جزءً تراثيا منها.
والتويجري الذي لم يدرس في المؤسسات التعليمية الا بحد أدني، كان يحمل ذائقة أدبية رفيعة جدا، ورؤى فلسفية في تاريخ الجزيرة والعروبة، تظهَر في بعض فصول كتابه عن قصة تأسيس المملكة، لسراة الليل هتف الصباح، والذي عرض فيه لنظريته في علاقة الفكرة الدينية ورابطة الاسلام بالدولة، لسنا في صدد تحليلها اليوم.
لكن هذا المستوى والذائقة والمعرفة لآداب العرب، واندفاعه على تعبيره البياني كان شاهدا معروفا في هذه الشخصية، ولا أزال أذكر مراسلته مع صديقه المثقف العربي الكبير الفقيد الخال د. راشد بن عبد العزيز المبارك، وحديثه وحنينه العروبي للأحساء، في قطعة بلاغة أدبية راقية.
تواردت عليّ هذه الأفكار وأنا أتابع البرنامج الناجح والمميز في تلفزيون قطر، «فصاحة»، والذي أُطلق في لحظة ظمأ وصراع محموم، لبرامج أقل ما يقال عنها غير مفيدة، وكثير منها سخيف، ونقل عن قنوات أجنبية بذاتها أو استنساخها.
وهو مسار مفسد لتأسيس اللغة والفكرة في جيل الشباب والطفولة، في حين يحتشد مع فصاحة جمهور عربي، من الجنسين لسباق بين النساء والرجال، يُطلقون منافستهم في حماس، ويتابعه شريحة من الجمهور العربي عبر التلفاز ومصادر الإعلام الجديد، ليختاروا من هو الأقرب للغتنا الخالدة، وجوامع كلم نبينا عليه السلام، ووعاء الكلم للقدوس الأعظم، في كتاب الله العزيز.
وغير ذلك من متعة اللغة العربية وبُنيّتها لكل شعر رومانسي وحكمة بيانية وأدبيات رقيقة، تبهرك وتصلح ذائقتك وترفع ثقافتك، كنتُ سعيداً جداً بهذا البرنامج وأن تُطلق منافساته في مثل هذه المسارات، خاصة أن المبالغة في تعظيم الشعر النبطي، والهويّات الصراعية الفرعية، مؤشر خطير للبناء الوطني القطري والعربي الكبير.
ولا أُريد أن يُفهم من هذه الملاحظة، رفض الشعر النبطي الذي استمتع بوقعه وبيانه، فهو جزءٌ من إرث بداوتنا الطبيعية التي نفتخر بها، والتي حمل أهلها المروءة والخلق، وإنما ذُمّ الأعراب الصادون عن الله ورسوله، كما ذم مجرمو الحرب في قريش، فالعرب حاضرة وبادية ثنائية رائعة لصناعة الجغرافية التاريخية العربية المجيدة.
وهم قبل ذلك حملة الرسالة الحضارية للأمة المحمدية لكل الانسانية، فهم أصحاب رسول الله، ولم تمنع البداوة قوافل من علماء وأدباء وشخصيات عربية، برزت فكراً وثقافة في مجالات عديدة، كما لم تُحصِّن المدن كل أهلها، من الغلو والتطرف والطائفية.
لكن عودتنا إلى رابطتنا الكبرى وذائقتنا الجميلة وهويتنا الخالدة في قرءاننا، هو بستان وتقدم ثقافي، وصناعة حضارية، تأخذ بألبابنا، وتصحح لحن ألسنتنا، وغفلتنا عن أدب العرب ورومانسيتهم الرقيقة وديوان حكمتهم العظيم.
لم أتفاجأ من فكرة البرنامج حين عرفتُ صاحبها، وهو المشروع الذي حقق تواجد رمزين إعلاميين كبيرين من جمهورية البي بي سي، هنا لندن، التي استمع اليها كل العرب، رغم انحيازها السياسي السافر.
لكن تعامل العرب مع كل مُذِيعِيِها المُتَميّزيْن، بكل أريحية وترنمت شعوبهم لتعبيراتهم وذائقتهم، فكان عضوا اللجنة عارف الحجاوي وأحمد الشيخ بوابة طرب لغوي وأدبي، يُشنف أسماع الجمهور والمتسابقين معا، في ظل خبرتهم وذوقهم، ومع حيوية الأخ العزيز أ. عبد الله العذبة ثالث اللجنة، ومقدم البرنامج الرائع عبد الرحمن الشمري، وحضور قطر وعرب الخليج، في ثوبهم ولسانهم، فكانت رسالة جميلة باسم الخليج العربي، إلى كل جمهور وطننا العربي الكبير.
وما أجمل أن نقود في الخليج العربي، مثل هذه المسارات التي تجمعنا مع أشقائنا، وما أروع أن تكون القدس وفلسطين قضية الأمة المركزية وجراحات سوريا، في مثل هذا المحفل لتكون ايقونة وحدة ومبدأ صدق وثقافة إنسانية تقدمية.
ولماذا لم أتفاجأ، لأني أعرف صاحب فكرة هذا البرنامج والمهتم به، وهو الصديق العزيز الخلوق المهذب، الشيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني، المدير التنفيذي لمؤسسة قطر للإعلام، فمن يعرف عبد الرحمن بن حمد، أو يتابع حسابه في توتير لن يجده موظفا يدير مسؤوليته بمهنية كما هو وضعه في المؤسسة، ولكن سيراه أديباً تعلق بأبي الطيب وشعر العرب وحكمته، وواضح تأثره بإرث جده لأمه الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، واعتنائه بأدب العرب وفصاحتهم، رحمه الله.
وإذ أهنئ الصديق العزيز أبي علي، وكلَّ فريق البرنامج وهو يستعد للحلقة الختامية لنسخته الأولى، كم أتمنى أن توسّع وتتعدد هذه النماذج، وأن تتحد وزارات الثقافة في الخليج العربي بدعم مثل هذه البرامج، بل وتتنافس فيها، فنَعَم نحنُ الخليج العربي وجزيرة العرب، والعربية ليست مصطلحا إعلاميا، لكنها روح وانتساب حضاري وأممي وإنساني، وهي من أجمل لغات الحب والثقافة والفنون، فمتى نقنع أجيالنا بالتقدم لها وبعثرة كل ما ساء من الظنون.
مهنا الحبيل - مدير مكتب دراسات الشرق الإسلامي - اسطنبول