د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
اكتشفت السعودية مؤخرًا أنها ضمن الدول التي تقدمت حثيثًا نحو الرخاء بفضل ثروات النفط الطبيعية عندما كان عدد السكان قليلين، بخلاف الدول التي قادت تقدمًا صناعيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا.
تراجع اقتصاد نموذج الرخاء بفضل ثروات طبيعية نتيجة تداخل عوامل عديدة، أهمها نمو الكثافة السكانية بمعدلات تسبق نمو الاقتصاد. كما أنها تدفع ثمن تداخل العولمة باتفاقيات التجارة الحرة والنمو المتعدد الجنسيات، واتجاه تكتلات الأسواق الإقليمية نحو الفدرلة (كالاتحاد الأوروبي)،رغم أن حرية السوق المثالية لا وجود لها على أرض الواقع، مثلها مثل الأيديولوجيا المهيمنة على أرض الواقع التي ترفض الانفتاح، وتحرص على الحمائية الشاملة.
فيما نجد أن أحدث الموانئ تمتلكها شركة موانئ دبي، لكن قد يتحول الانفتاح إلى نصب وفساد ونهب لممتلكات المجتمع كما حدث في روسيا بعد انهيار الاشتراكية إذا لم تكن هناك ضوابط وقوانين صارمة، ولكنه لم يحدث في الصين بعد الانفتاح والاستثمار الرأسمالي.
مثلما أثبتت فضيحة وثائق بنما التي سُربت من شركة قانونية في بنما، وأظهرت تجاوزات أنشطة أثرياء وأصحاب النفوذ، وحتى لشخصيات سياسية عامة وبارزة. ومن بين ما ذُكرت أسماؤهم في الوثائق المسربة أصدقاء للرئيس بوتين وأقارب لزعماء الصين وبريطانيا وأيسلندا وباكستان، إضافة إلى رئيس أوكرانيا. فيما أدت مغامرات البنوك في الدول المتقدمة صناعيًّا إلى أزمة مالية عالمية، استخدمت أموال ضرائب المواطنين في تأميم البنوك لإنقاذها من الإفلاس بسبب أن البعض يرى أن التأميم ليس حلاً مثاليًّا.
وبعدما فقدت أسعار النفط ما يقارب 65 في المائة من أسعار صيف 2014، وهو الدخل الرئيسي للدولة؛ ما يفرض على الدولة التدخل لإنقاذ الاقتصاد المحلي المعتمد على الصناعات المدعومة محليًّا، التي يعتبرها العالم صناعات تتجه نحو إغراق أسواقه؛ ما يجعله يتجه نحو فرض رسوم جمركية على واردات تلك الصناعات.
وقد أكدت منظمة التجارة العالمية خلال ثاني مراجعة لها للسياسات التجارية مع السعودية أن الاعتماد على النفط ما زال قائمًا، رغم أن النمو الاقتصادي في السعودية خلال الفترة 2010 - 2014 كان أحد أسرع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي المسجلة في مجموعة العشرين، لكن على الرغم من تركيز السعودية على التنويع في خطط التنمية المتعاقبة إلا أن الاقتصاد السعودي لا يزال يعتمد في أساسه على إنتاج النفط، رغم أن سياسة الحكومة ركزت في الخطة التنموية العاشرة 2015 - 2019 على تنويع الاقتصاد جغرافيًّا إلى قطاعات جديدة، وعموديًّا من خلال التصنيع في القطاعات المرتبطة بالنفط والغاز.
ارتفاع أسعار النفط ساعد على زيادة الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 5.3 في المائة سنويًّا بين عامي 2010 و2014، وارتفع الناتج المحلي للفرد (بالأسعار الثابتة لعام 1999) من 19 ألف دولار في عام 2010 إلى ما يزيد على 24 ألف دولار في عام 2014، وأسفرت عوائد النفط عن انخفاض الدَّين العام إلى 1.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع احتياطيات النقد الأجنبي من 526 إلى 746.25 مليار دولار، وهو ما يعادل تقريبًا الناتج المحلي أو ثلاث سنوات من الواردات.
ولا يزال الاقتصاد السعودي يعتمد على إنتاج النفط الذي يمثل 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، و83 في المائة من الصادرات و90 في المائة من إيرادات الحكومة في عام 2014.
ليس فقط السعودية تعيش مرحلة انتقالية نتيجة الضغط الاقتصادي الذي يتزامن مع التقلبات السياسية جنبًا إلى جنب، ونادرًا ما يتم حلها بسرعة وسهولة، وتحتاج إلى جهود ووقت، وهناك الصين كذلك دخلت مرحلة انتقالية نتيجة تباطؤ النمو الاقتصادي فيها المثقل الخاص بالعقدين الماضيين، بينما الهند التي يمكن أن تخطف النمو الاقتصادي من الصين.
اقتصاد السعودية كبير جدًّا، ولا يمكن أن يتوقف على أسواق دول الخليج الصغيرة، رغم أن هناك دولاً خليجية نمت نموًّا سريعًا، ولكن لا يمكن مقارنتها باقتصاد وإمكانيات السعودية؛ فهي بحاجة إلى أسواق وتكتلات وشراكات أكبر في الجانبين الشرقي مع الهند والصين، ومع بقية دول الآسيان، ومع الجانب الغربي حيث دول مصر والسودان والقرن الإفريقي إلى داخل العمق الإفريقي حتى شمال إفريقيا.
لذلك شكلت زيارة تايندرا مودي رئيس وزراء الهند أخيرًا للسعودية قدرًا عاليًا من الأهمية، الذي صرح بأن السعودية شريك موثوق ومهم في أمن الطاقة، كما قال إن الملك سلمان زعيم حقيقي. واستكمل تصريحاته بأن طالب المجتمع الدولي باستكمال اتفاقية الإرهاب، وأكد التزام بلاده بالقضية الفلسطينية؛ ما يعني أن هناك تقاربًا كبيرًا جدًّا بين الجانبين.
أثارت هذه الزيارة أسئلة وشكوك عدد من المحللين، إما عن سوء نية، أو نتيجة غياب مفاهيم السياسة الواقعية لديهم، وتناولتها الصحف السياسية على مستوى المنطقة والعالم، وعلى وجه الخصوص كان سؤال يتردد: كيف أن السعودية تقيم علاقة استراتيجية مع الهند رغم أن السعودية في الوقت نفسه تقيم علاقة استراتيجية مع الباكستان، وهي على علاقة عدائية مع الهند؟ وكيف تعيد الهند علاقاتها مع إيران؟.. أسئلة عديدة.
مثل هؤلاء ممن لديهم توجهات سليمة يجب أن يدركوا أن العلاقات بين الدول لم تعد حصرية، ولن تقوم علاقة بين السعودية والهند على حساب العلاقة الاستراتيجية بين السعودية والباكستان، كما أن الهند لن تقيم علاقة استراتيجية مع السعودية على حساب إيران، لكن هناك حسابات واقعية ومصالح تفرض ضبط العلاقات.
لكن الخليج العربي والمحيط الهندي منطقة مشتركة بين دول الخليج والهند، بما فيها إيران إذا توقفت عن مشروعها القومي على حساب دول المنطقة، وهو ما لا ترضاه الدول كافة. ويمكن ضبط ووقف هذا النفوذ عندما تقوم علاقات تكاملية مشتركة.
إذ يمكن أن تحقق المنطقة تكاملاً اقتصاديًّا، كما أن دول أوروبا لم تجد بعد حربين عالميتين خاضتهما سوى التكامل الاقتصادي كمخرج من تلك الصراعات إلى التعاون والتكامل السلمي المتحقق في الاقتصاد، وهي فرصة أمام إيران التي لا توجد سواها بعدما حاصرتها السعودية من كل جانب، ولن ينفعها الاتفاق النووي مع الغرب الذي تعتقد أنه بمثل اتفاق كهذا يمكن أن تتحول إلى شرطي المنطقة، بينما استراتيجية أوباما محاولة إخراج إيران من عزلتها حتى لا تتحول إلى دولة أكثر إرهابًا، وتصر على برنامجها النووي، وترك وقف نفوذ إيران للسعودية.
المرحلة الانتقالية التي تمر بها السعودية هي ليست فقط في البحث عن أسواق، بل كذلك في البحث عن قدرات تكنولوجية دقيقة وعالية. والهند تمتلك كثيرًا من تلك القدرات والتقنيات التكنولوجية، وهي حريصة جدًّا على تبادل المنافع؛ إذ يوجد في السعودية ثلاثة ملايين هندي يعملون في مشاريع تنموية.
السعودية هي في زمن تبحث فيه عن علاقات اقتصادية وأمنية، وخصوصًا أن تبادل المنافع لا يمكن أن يتم دون تأمين أمن منطقة الخليج الممتدة إلى بحر العرب والمحيط الهندي من أي معوقات إرهابية؛ لذلك يفرض هذا الأمن التعاون على دول تلك المنطقة الاستخباراتي، مثل منع الولايات المتحدة ثالث سفينة تنقل شحنة أسلحة إلى الحوثيين قادمة من إيران، ومن قبل ضبطت فرنسا وأستراليا سفينتين قادمتين أيضًا من إيران.
ما يعني أن الهند الدولة الكبرى في المنطقة الممتدة من المحيط الهندي إلى الخليج العربي يمكن أن تشارك في تلك المهمة الأمنية التي تعهدت بها للسعودية بعد زيارة مودي لوقف إيران عن تصدير الإرهاب إلى دول المنطقة. ويتزامن ذلك مع وقف التمدد الإيراني في المنطقة، واستبداله بالتعاون والاندماج مع تلك المجموعة إذا ما توقفت عن تصدير الإرهاب، الذي يمكن أن تضع عليها بسببه تلك الدول عقوبات، والعقوبات متنوعة وعديدة، أهمها العزلة إذا لم تتوقف عن تصدير الإرهاب الذي يقود إلى إضعاف اقتصادها، الذي يؤدي إلى قيام ثورات داخلية ناقمة من سلوك الحرس الثوري الذي لاقى ضربة موجعة في سوريا، مثلما تراجعت إيران عن منع حجاجها بعد رفض التوقيع على النظم التي تتبعها السعودية مع حجاج العالم كافة خوفًا من نقمة شعبية ضد الحكومة. كما أن الوضع الداخلي في إيران يعاني تفككًا وصراعات نتيجة السياسات التي يتبعها الحرس الثوري مع بقية القوميات، وهي ترسل قوات خاصة إلى سوريا التي سبق أن نجحت في قمع البلوش والأكراد وشعب الأهواز.
وخصوصًا أن رئيس الوزراء الهندي قال أثناء زيارته للسعودية إننا ملتزمون بالتعاون بمجالات الدفاع والأمن ومكافحة الإرهاب وغسل الأموال والاتجار بالبشر. وقال مودي كذلك: نحن لا ننسى دور السعودية في مساعدة إخلاء المواطنين الهنود والأجانب الذين تقطعت بهم السبل في اليمن.
السعودية والهند تركزان على الواقع الجيوسياسي الذي يرسم دورًا استراتيجيًّا جديدًا لهما وللمنطقة، وهما أمام مرحلة جديدة بدوافع المنفعة المتبادلة، وأمام تشكيل تكتل اقتصادي لمنطقة حوض المحيط الهندي والخليج العربي، يمكن أن يضم الباكستان وأفغانستان ودولاً أخرى تود الانضمام إلى هذا التكتل.
يبدو أن كلاً من الهند والسعودية اكتشف الآخر مؤخرًا؛ إذ تريد الهند أن تستثمر صداقتها مع السعودية لبناء شراكة استراتيجية شاملة، بل تريد الهند العمل على توسيع كبير للقدرات التكريرية؛ لتصبح الهند مركزًا إقليميًّا للمنتجات المكررة، وهي خطة رئيسية للسعودية للتحرر من إنتاج وتصدير النفط الخام الذي تؤثر فيه المخزونات العالمية. كما تطمح الهند إلى الشراكة مع السعودية في قطاع الطاقة على أساس التكامل والترابط، والاستفادة من خبرات الشركات السعودية في بناء 100 مدينة ذكية تقيمها الهند.
إذ ما زالت التجارة البينية بين الجانبين محدودة، وتبلغ نحو 40 مليار دولار، والقيمة الاستثمارية الهندية في السعودية 1.6 مليار دولار، وتخطط الهند إلى أن تتجه للشراكة الاستثمارية بين الجانبين بإقامة مشاريع في مجالات الطاقة المتجددة والرياح والفحم والإسكان والتعدين وأمن المعلومات. ودعا مودي السعوديين إلى التملك الكامل لأي مستثمر سعودي في 12 مجالاً استراتيجيًّا.