د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
قالت أنجيلا ميركل في مؤتمر القمة الحكومي الذي انعقد في دبي في فبراير عام 2016 (إن الهند والصين لديهما مئات الآلهة والعقائد المختلفة ويعيش الناس فيهما بسلام مع بعض، بينما المسلمون لديهم رب واحد ونبيّ واحد وكتاب واحد، لكنّ شوارعهم تلونت بالأحمر من دمائهم، القاتل يصرخ الله أكبر والمقتول يصرخ الله أكبر). وغنيّ عن البيان أن ما قالته مستشارة ألمانيا يصدّقه الواقع. فلننظر - نحن المسلمين - إلى حالنا اليوم. لقد أدخل المتطرفون والطائفيون والمسيّسون للإسلام أكثر أوطان المسلمين في لجة من الإرهاب الملتهب، تداول إيقاده من جانبٍ جماعات وميليشيات وأحزاب شيعية متطرفة تحرّكها دوافع طائفية، مثل تلك التي تساند الأسد في تدمير سوريا وتشريد وإبادة شعبها، أو تلك التي تفتك بالمدنيين السنة في العراق مدعومة بالحرس الثوريّ الإيراني ومستترة بذريعة محاربة الجماعات الإرهابية السنية، أو مثل جماعة الحوثيين الذين علّمتهم إيران ودربتهم على التنظيم وحمل السلاح فانقلبوا على السلطة الشرعية باليمن واغتصبوها وقطّعوا أوصال الشعب اليمني وحاصروا المدنيين وجوّعوهم، أو مثل الخلايا التي زرعتها إيران في دول الخليج لزعزعة الأمن فيها واستفزاز حكوماتها؛ ومن جانب آخر تتخذ جماعات متطرفة سنية من الإرهاب والتكفير وسيلة دموية تحقّق بها أهدافها السياسيه متدثّرة بلباس الدين وتأويلاتها الدينية المنحرفة، مثل طالبان الباكستانية والأفغانية، حيث تحارب كلٌّ منهماحكومة مسلمة وتقتل المدنيين في المساجد والمدارس والأسواق. ولا تزال القاعدة تمارس أنشطتها الإرهابية في حضرموت ومصر وبلاد المغرب وإندونيسيا ومن خلال خلاياها المتبقية في بعض دول الخليج؛ وفي بعض مناطق سوريا ينشط فرع القاعدة (جبهة النصرة ومشتقاتها)، لا ليقاتل النظام المجرم فقط بل أيضا- مثلما تفعل داعش- جبهات الثورة المعتدلة (الجيش الحر) لينفرد بالسلطة في مناطق نفوذه، ممّا أتاح للنظام مزيداً من المكاسب على الأرض. ولا يتفوّق على القاعدة في الإجرام والتطرف وسفك الدماء وفوق ذلك بانتهاك الأعراض والتوحش إلا نسختها المطورة التي انفصلت عنها وهي تنظيم داعش الذي استحوذ على مناطق واسعة في سوريا والعراق وليبيا، ومن بايعه من جماعات متطرفة متوحشة مثل (بوكو حرام) في نيجيريا. إن ديناميكية نشوء وتطورالحركات الإسلامية تكاد تكون واحدة. فبعض التنظيمات الإرهابية تأسّست في أول أمرها كحركة سلميةعوية (مثل حركة الإخوان المسلمين بمؤسّسها حسن البنّا) قائمة على فكر المؤسس ثمّ تدرجت إلى تنظيم سرّيّ يتّبع قواعد صارمة أولها الولاء المطلق للتنظيم والانتماء إلى نهجهه ومذهبه، فيصبح الولاء والانتماء الديني متجسّداً في الولاء والانتماء للتنظيم ومذهبه. ولأن التنظيمات والمذاهب تتعدّد وتتفرّع فإنها تختلف إن لم يكن في الأهداف ففي الوسائل. ولذا تدرّج بعضها من الدعوة إلى التعصب والتحزب ثم التطرف والكراهية ثم الإرهاب وسفك الدماء. ويشهد تاريخ المذاهب والطوائف الإسلامية والواقع المعاصر على ذلك. ولو تُرك الوضع على هذه الحال فإنه سيستشري، وسيزداد العالم الإسلامي تفرّقاً، وستتمزق بعض دوله شرّ مُمزّق. إن مجرد تخيّل هذه الصورة الكئيبة المؤلمة يستدعي النهوض من سباتنا العقلي ومكافحة (الأدلجة). والأدلجة المقصودة هنا هي - بكل بساطة - تسييس الإسلام أو ربط الدين نفسه بالسياسة، وتأويل نصوصه بما يسوّغ لفرض نهج أو رؤى سياسية أو غير سياسية بالقوة، ومن ثَمّ التفرّد بالحكم. وهذا فيما يبدو هو ما جعل (راشد الغنوشي) زعيم حركة النهضة في تونس- ذات الطابع الحزبي الإخواني - يعلن خروجها من (الإسلام السياسي)، وعزمها التحوّل إلى حزب ديمقراطي مدني بعيد عن تأثير الحركة، بينما تمارس الحركة نشاطاً دعوياً فقط. وجاء ذلك بعد أن رأى فشل الإخوان المسلمين في تطبيق أسلوب الحكم الذي انتهجوه في مصر وقبله في السودان، وخسارة حركة النهضة للأغلبية في مجلس النواب. وسواءً كان الغنوشي مراوغاً- كما يقول بعض الكتاب - وتراجع متحيّناً فرصة الوصول إلي الحكم، أو جادّاً صادقاً فيما أعلنه - كما يقول آخرون - فإن مجرّد الإعلان عن التحوّل وعن مبرّراته سيكون له تأثير عميق على حركات الإسلام السياسي. والحكمة تقتضي إدراك أن تسييس الإسلام يختزله في مذهب حزب واحد أو طائفة واحدة تفسّر نصوصه وتطبق أحكامه وفق وجهة هذا المذهب، فيتطوّر اختلاف المذاهب من (حرب نصوص) إلى (حرب أسلحة)، ممٌا يجعل من الدين وسيلة لتفريق المسلمين - كما هو حاصل اليوم - بدلاً من اجتماعهم. وقبل ميركل بألف وأربعمائة عام قال رسول الحق محمد عليه الصلاة والسلام في حجّة الوداع: (.. إن ربكم واحد وإن أباكم واحد. ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله...) إلى أن قال: (..فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام... إلى آخر احديث).
فمتى يدرك المسلمون أن تعايشهم في سلام وأن عزتهم وعزة الإسلام تتحقق كلها بوحدة قلوبهم وقوة إيمانهم وحكمة عقولهم وصيانة عقيدتهم من التلوث بأوضار الأهواء المسيّسة للدين.