د. جاسر الحربش
ما الذي يوجد مقابل شاعر المليون وشعراء القلطة والحفلات والأعراس؟. ما الذي يوجد مقابل لاعب المنتخب ولاعب الدوري واللاعب المتعاقد؟. ما الذي يوجد مقابل كاتب المديح والتطبيل والترويج؟. هل يوجد مقابل هؤلاء مخترع المليون أو فيزيائي المئة ألف، كيميائي العشرة آلاف، تقني الخمسة آلاف؟. لا، لا يوجد بين هؤلاء ولا من هو موعود حتى بالخضراء أم خمسمية ريال.
رخص البضاعة الفكرية والإبداعية وتدني أوضاع أصحابها واضح، بينما شبع وبطر أصحاب البضاعة الكلامية والرفس والركل أيضاًً واضح، ويبقى السؤال عن المسؤولية في هذه الأوضاع. المسؤولية يتحملها بالطبع ذلك القادر على الدفع بسخاء مقابل مهارات اللسان والقدم والتطبيل والترويج، لأنه يستفيد من ذلك للتنافس على الوجاهة التي توفرها التسلية الشعبية بالكلام وهز الرؤوس والتصفيق أو الجري والمراوغة والصراخ.
القول بإن المسابقات الشعرية والنثرية والمباريات الرياضية ممارسات شائعة في كل بلاد الأرض المتقدم منها والمتأخر قول صحيح، لكنها صحة جزئية. الصحيح المكتمل هو أن البلاد المتقدمة تضع للمهارات اللسانية والجسدية أماكنها وأوقاتها واستثماراتها، وللمهارات الفكرية والتقنية أماكنها واستثماراتها، مع فارق أن هذه الأخيرة هي التي تقوم عليها أساسيات وطموحات الدول.
لذلك نجد في دول العالم الأول في نفس المدينة عشر جامعات وعدة معاهد ومختبرات علمية وتقنية مقابل ساحتين أو ثلاث للألعاب والمباريات الرياضية. المهارات الجسدية وفنون الحوار والإلقاء مكانها الأول المدارس، كجزء من تقوية اللياقة البدنية والتربوية تكملة لبناء العقول للاستثمار في الإنتاج المنافس في أسواق العالم. من يجد عندهم وقت فراغ زائد عن ساعات العمل فلديه المضامير للجري وسياقة الدراجات. بالمختصر كل شيء بحسابه، ويبقى الاستثمار الأكبر للاختراع والإنتاج والإبداع في مؤسسات العلم ومعاهد البحث وأماكن التطبيق، والزائد عن ذلك يستثمر لامتصاص التوتر العصبي والعضلي في الأنشطة البدنية والمسابقات التعبيرية.
انظر في أحوال البلاد العربية كافة خصوصاً دول الخليج وسوف تجد أن بضاعة اللسان والقدم هي الطريق الأسهل والأسرع والأكثر أمناً للحصول على المال والجاه والتمتع بما تحققه الثروة والوجاهة. الصحفي الأقرب إلى الحزب أو الحكومة، وكذلك لاعب الدوري يمتلك الفيلا والمرسيدس، أما الصحفي والكاتب الملتزم بحدود المصلحة العامة فيسكن بالإيجار ويتنقل بسيارات الأجرة. الشاعر المداح واللاعب المحترف يمتلك القصر وأسطول السيارات وربما يسافر في إجازاته بالمجان، أما وافر العقل محبوس اللسان فيبهج عائلته بإجازة أسبوع على شاطئ نصف القمر أو في جبال السروات. اللهم ارزق الأدمغة مثلما رزقت الألسنة والأقدام في بلاد العرب.