ترددت كثيراً قبل كتابة هذه الكلمات؛ فأنا لا أعرف من أين أبدأ ولا من أين أنتهي.. فعندما تتحدث عن والدك.. كمن يطلب من طالب في الصف الأول الابتدائي ان يتحدث عن علاّمة عصره..
نعم.. فقبل 3 أشهر من الآن رحل والدي – خريش صالح خريش- في حادث سير أثناء سيره لعتق رقبة رجل من بني قومه.. ولم يكن يعلم أن روحه هي التي ستسبق المحكوم إلى بارئها.. رحل كما شاء وعلى ما يحب.. فقد كانت سعادته دوما في خدمة الآخرين، وكان يخبرنا أن الحي من يساعد الناس، والميت من يصد عنهم.. ذاك هو أبي الرجل العظيم الذي لم يكن يجيد القراءة والكتابة ولم يحمل الشهادات العليا، ولكنه كان قدوة للمتعلمين في تطبيق تعاليم الشريعة ومقاصدها من حسن تعامله مع الناس وإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاجين وحسن تربية أبنائه حتى لا يكونوا عالة على الآخرين، إما بخلق سيئ أو بطلب مساعدة.
أبي الغالي.. بالرغم من تجاوزه السبعين عاما إلا أنه لم يكن يشكو من أي مرض، فقد كان يحب قضاء حوائجه بنفسه، وكنا نرجوه أنا وإخوتي أن يجعلنا نعينه ونساعده ولكنه كان يوافق في النادر مجبرا منّا، فهو مازال يرانا صغاراً تحت أجنحته يسهر على همومنا ويسعى لتحقيق أحلامنا، بل ويكابد الدنيا لأجل ان نعيش بسلام وراحة، رغم ان جسده قد بدت عليه علامات الكبر.. وأصغرنا سنّا قد بلغ 17ربيعاً.
قبل 45 يوما من وفاة أبي العزيز قبّل رحمه الله رأس زوج خالتي الذي وافته المنية بعد 3 سنوات من مصارعته السرطان، وقال وهو ينظر إليه وعيناه قد امتلأتا بالدموع : لا أعلم يا سلطان بكم سبقتنا؟ فقلت له أمد الله في عمرك، ولم أكن حينها أعلم الجواب.. (أبي ليس عقوقا مني إنني لم أجب ولكنه علم الغيب الذي لا يعلمه الا الله سبحانه وتعالى.. وحين علمت بالجواب كنت قد رحلت إلى رب رحيم).
المشهد الأخير من حياة والدي كان حين صلاة الجنازة والدفن في المقبرة.. فالمسجد اكتظ بالمصلين.. وفي المقبرة وفود من الناس جاءت من كل مكان، حتى ظن الجميع ان في المقبرة ثلاث جنائز، وشهادات من الناس بحسن خلقه وبكرمه، فذاك يقول: والدكم كان يقضي حاجات الأيتام في الحارة، وآخر يقول: والدكم كان يعمل للمسجد بالمجان، وثالث يروي لنا مواقف أبي مع الناس في الشدائد.. ولكن لعلها شهادة من الله بحسن خاتمته بعد أن بشرنا بالنور الذي ملأ وجهه رغم سمرة لونه، وبدا كأنه نائم كعادته ينتظرنا لنوقظه لصلاة الفجر.
وداعاً سيدي وسندي وتاج رأسي.. منذ رحيلك رأيتك في منامي مرات عديدة باسما تلبس الأبيض من الثياب.. وتبشرني أنك في راحة ونعيم.. ونسأل الله تعالى أن تكون في أعلى الجنان.. فقد كنت بنا رحيما ورحلت إلى أرحم الراحمين.
- منصور خريش