تعريف: سماحة النفس هي قبول نفسي لما يجري به القضاء والقدر من خير أو شر بالرضى والتسليم وهي من الظواهر الخلقية المحمودة.
ويأتي في مقابل السماحة، ما يمكن أن نسميه بخلق نكد النفس وعسرها وتشددها وترجع إلى مجموعة من الظواهر الخلقية الذميمة في السلوك الإنساني.
والناس على اختلاف مستوياتهم في الذكاء، واختلاف نماذجهم الخلقية يوجد فيهم من يتمتع بخلق سماحة، فهُم هينون لينون سمحاء، ويوجد آخرون نكدون متشددون يتذمرون من كل شيء لا يوافق هواهم، ويريدون الدنيا كلها أن تكون على وفق شهواتهم وأهوائهم الآنية المتجددة، أو على وفق ما يرون أنه الأفضل والأصلح والأحسن، فلا يستقبلون الأحداث بسماحة نفس ولا يتقبلون ما لا يوافق هواهم من أشياء بسماحة النفس، بل يستقبلونها بوجوه عابسة ونكد وبسخط في نفوسهم وسب وشتم وتشاؤم وحذر.
وأما سمحاء النفس فإنهم يكونون هينون لينون، ويحاولون أن يجدوا لكل ما يجري به القضاء والقدر حكمة مرْضية، وإن كان مخالفاً لأهوائهم ويراقبون دائماً قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (216) سورة البقرة، ويرددون في أنفسهم عند كل أمر يكرهونه معنى قول الله تعالى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (19) سورة النساء من أجل أن يستقبلوا كل ما يأتيهم من قِبل الله بالرضى والتسليم.
ويلاحظون جوانب الجمال في كل ما تجري به المقادير، ويغضون النظر عن جوانب القبح التي قد تكون فيها بحسب تقديرهم، فهم هينون لينون راضون متسامحون لا يسخطون إلا إذا وجدوا أمراً يسخط الله؛ عندئذ يغضبون لغضب الله، أما ما فيه رضى الله، فإنهم يرضون به لرضى الله، وهم يترقبون المستقبل بتفاؤل وأمل، كما أنهم يستقبلون الواقع بانشراح لما يحبون وإغضاء عما يكرهون، وبذلك يسعدون أنفسهم ويريحون قلوبهم بالرضى والتسليم.
وإن مثل هذا السلوك ينسب إلى كمال العقل، إذ إن العاقل هو الذي يكون واقعياً فيسعد نفسه وقلبه بالواقع الذي لا يملك دفعه ولا رفعه ويكون واقعياً؛ وهنا بيت القصيد فيعامل الناس بالتسامح لأنه لا يملك أن يطوّع الناس جميعاً لما يريد، فالناس الآخرون أصحاب نفوس مختلفة وطبائع متباينة وارادات لا يطابق بعضها بعضاً.
وأما أصحاب النفوس النكدة العسيرة المتشددة، فإنهم قلما يرضيهم شيء، بل يحاولون أن يجدوا في كل شيء أو علم جوانب قبيحة تنفرهم منه، بل تكاد عيونهم لا ترى من الأشياء أو الأعمال إلا أقبحها، فلا يرون في البدر إلا كلفه، ولا يشاهدون في شجرة الورد إلا الأشواك، ولا يرون في الجبل الشامخ إلا أنه عقبة في طريق السالكين؛ ولا يرون في الصيف إلا شمسه المحرقة، ولا يرون في الشتاء إلا برده القارس، ولا يرون في كتاب عظيم النفع إلا ما فيه من أخطاء وهفوات.
إن النكِد المحروم من خلق سماحة النفس، إذا نظر إلى وجه جميل يبحث فيه عن بثرة ليعيبه بها، وإذا تعارف على رجل ذي كمال واستقامة، أخذ يبحث له عن عثرة لينغصه بها، وهكذا ديدنه نكد عسير متشدد بحّاث عن العيوب والقبائح ولا يرضيه شيء، ولا يسره شيء، حتى نفسه ولابد من التنويه أن نكد النفس شقاء على صاحبه، إذ إنه يحرمه من أن يسعِد نفسه بشيء.
وإذا أراد الإنسان أن يسعَد في حياته وأن يسعِد الآخرين، فما عليه إلا أن يلتزم بالتوجيه الإلهي الذي يؤمِّن له ما يريده، فإن الله أحكم الحاكمين، يعرف بعلمه ما هو في مصلحة الإنسان ويأمر به ويحث عليه، ولذلك إذا ما استمع المرء إلى الدعوة الإلهية، وعوَّد نفسه أن يكون سمح النفس هيناً ليناً، فإنه يستطيع أن ينعم في حياته بأكبر قسط من السعادة وهناءة العيش؛ لأنه بخلقه هذا يتكيف مع الأوضاع الطبيعية والاجتماعية بسرعة، مهما كانت غير ملائمة لما يحب أو لما تهوى نفسه، ويستطيع أن يستقبل المقادير بالرضا والتسليم مهما كانت مكروهة للنفوس.
ويستطيع سمح النفس الهين اللين، أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له وثقة الناس به، لأنه يعاملهم بالسماحة والبِشر ولين الجانب والتغاضي عن السيئات والنقائص، فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح كان في نصحه رفيقاً ليناً سمحاً هيناً يسر بالنصيحة ولا يريد الفضيحة، يسد الثغرات ولا ينشر الزلات والعثرات، ويعامل الناس بالسماحة في الأمور المادية، فإذا باع كان سمحاً، وإذا اشترى كان سمحاً، وإذا أخذ كان سمحاً، وإذا قضى ما عليه كان سمحاً، وإذا اقتضى ما له كان سمحاً.
ويجلب سمح النفس الهين في نفسه الخير الدنيوي لتسامحه، وذلك لأن الناس يحبون المتسامح الهين اللين، فيميلون إلى التعامل معه، فيكثر عليه الخيرُ لكثرة محبيه، وفي الوقت ذاته، يجلب سمح النفس لنفسه رضى الله تعالى والخيرَ الأخروي العظيم طالما أنه ابتغى سماحة رضوان الله عزَّ وجلَّ، وقد رغَّب الإسلام بسماحة النفس، ونفّر من نكدها، وقد دعا الرسول للسمحاء بأن يرحمهم الله، فقد روى البخاري عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى.
وقد شبّه الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في أخلاقهم وطباعهم بالأرض، فالهينون كهينها والقساة النكدون كحزنها والطيبون كطيبها والخبيثون كخبيثها. وكان الرسول صلوات الله عليه أعظمكم أسوة حسنة، في سماحة النفس ولين الطبع وسهولة المعاملة، وكمال الخلق، فكان بأخلاقه صلوات الله عليه صاحب دعوة عملية للتحلي بهذا الخلق وبسائر فضائل الأخلاق ومحامد السلوك.