د.محمد ابن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين نبينا محمد الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
جاء عند السيوطي في تفسيره عندما مرّ بسورة عبس في الآية الكريمة: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} (20) سورة عبس) أي خروجه من بطن أمه. ثم قال: وأخرج أبو نعيم في كتابه: الحلية، عن محمد بن كعب القرظي قال: قرأت في التوراة، أو قال: في مصحف إبراهيم فوجدت فيها يقول الله: يا ابن آدم ما أنصفتني، خلقتك ولم تك شيئاً، وجعلتك بشراً سوياً، وخلقتك من سلالة من طين، ثم جعلتك نطفة في قرار مكين، ثم خلقت النطفة علقة، فخلقت العلقة مضغة، فخلقت المضغة عظاماً، فكسوت العظام لحماً ثم أنشأناك خلقاً آخر، فتبارك الله رب العالمين، يا ابن آدم: هل يقدر على ذلك غيري؟ فقالوا: لا والله.
ثم خففت ثقلك على أمك، حتى لا تتمرّض بِكَ، ولا تتأذى، ثم أوحيت إلى الأمعاء أن اتسعي وإلى الجوارح أن تفرق فاتسعت الأمعاء من بعد ضيقها، وتفرّقت الجوارح من بعد تشبيكها، ثم أوحيت إلى الملك الموكل أن يخرجك من بطن أمك، فاستخرجتك على ريشة من جناحه، فاطلعتُ عليك، فإذا أنت ضعيف، ليس فيك قوة، وليس لك سنّ يقطع، ولا ضِرسٌ يطحن، فاستخلصت لك في صدر أمك عِرقاً يدر لك لبناً بارداً في الصيف، حاراً في الشتاء، واستخلصته لك من بين جلد ولحم ودم وعروق، ثم قذفت لك في قلب والدتك الرحمة، وفي قلب أبيك التحنن، فهما يكدان ويجهدان ويربيانك ويغذيانك ولا ينامان حتى تنام هنيئاً مرتاح البال.
ابن آدم: أنا فعلت ذلك بك، لا لشيء استأهلته به مني، أو لحاجة استضقت على قضائها.
ابن آدم: فلما قطع سنك، وطحن ضرسُك، أطعمتك فاكهة الصيف في أوانها، وفاكهة الشتاء في أوانها.
فلما أن عرفت أني ربك عصيتني، فالآن إذ عصيتني فادْعُني فإني قريب مجيب، وادعني فإني غفور رحيم.
وأخرج الغريابي وعبد بن حُميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (23) سورة عبس) قال: لا يقض أحدٌ أبداً كل ما افترض الله عليه، ولكن بالنية الخالصة، والبُعد عن المناهي يوفَّق للخير.
والله سبحانه يمتحن عباده على وجه الأرض، ليميز الخبيث من الطيب، كما جاء في حديث النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (الحلال بيّن والحرام بيّن)، يعني كما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا ضال وهالك.
أعطى الله الإنسان عقلاً يميز، ولساناً يعبِّر به ما يريد عمّا اشتبه عليه، ألم يقل سبحانه في النعم التي يمتع بها الإنسان: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، سورة إبراهيم، الآية 34، قال بعض العلماء في تفسيرها: إن نبي الله داود عليه السلام قال: (رب أخبرني عن أدنى نعمتك عليّ؟) فأوحى الله: يا داود تنفس، فتنفس فقال الله هذا أدنى نعمتي عليك.
وأختم عن لُطف الله بعباده ومدافعة الآفات مما يوجب الشكر أن رُباناً غير مسلم كان في سفينته، يجول مع اثنين يعملان معه، وقد قرّر بعد آخر رحلة أن يستريح، ويجعل في سفنه رجلين من الذين يعملون معه، وهما مسلم من الجزيرة ومسلم من الهند.
وفي يوم تلاطمت الرياح والهواء الشديد، وأصبح النهار كالليل، فأيقن بالهلاك، فبحث عن المسلمَيْن معه، فإذا هما يهيمان بالقراءة والدعاء، وسألهما عمّا يقولان، فترجما له معنى الآية الكريمة:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)} سورة الأنعام، الآيتان 63 ، 64، وأخبروه بأن هذا من القرآن الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: هل كان بحاراً يجول في البحار، قالوا لا، ولم يركب البحر طوال حياته، قال: لي في البحر عشرات السنوات ولم أر مثل هذا الذي وصفه نبيكم فعلموني دينكم، وبعدما وصلوا إلى إسبانيا أخذ معه أحد الرجلين ليعلّمه دين الإسلام، فأسلم وأحب الإسلام.
اللّهم لك الحمد على نعمك الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى.