عيد القرية مفعم بالفرح والسرور مضمخ بريح الكادي، الأطفال يرتلون أناشيد الطهر والنقاء، أصابعهم الصغيرة تنز بما تبقى من رب التمر، ليس هناك من عوائق تمنعهم من الفرح، يتجولون بحريتهم كالطيور الأنيقة زيارة لكل بيت في القرية، ليس بدافع الجوع فبضع تمرات تملأ بطونهم، يدفعهم الابتهاج بالعيد لينتشروا كباقات من الأزهار الجبلية في جنبات القرية، في سويعات الصباح كل شيء يحتفل بطريقته الخاصة الطيور تشدو بأعذب الأصوات، أغصان الأشجار تتمايس مع النسيم العليل، الأمهات يقدمن بكل فخر ما صنعته أيديهن الطاهرات من خبز ساخن، لثوب العيد عند أطفال القرية حكايات تروى، نسجها بخيوط الإبداع الروائي الراحل عبد العزيز مشري تحت هذا المسمى (ثوب العيد) انتظار ممتع لبياض يلبسه الطفل صبيحة العيد، لم أنس ذلك الاستعراض البريء بملابس حاكها خياط القرية بمعرفته ومهارته البسيطة وماكينته القديمة التي يعتبرها أغلى ثروة ينبغي الحفاظ عليها، فأضحت الإبرة تتلكأ بين حين وآخر ليخرج منتجه بشكل يرضى عنه الأهالي دون تذمر، وما أن ترسم الشمس بضوئها بواكير الفجر حتى يتقاطر القرويون رجالاً وأطفالاً إلى المشهد (مصلى العيد) أداءً لصلاة العيد، يقع المشهد فوق جبل يُسمى «القردود» ذلك الجبل يقف كجدار أمين لحراسة القرية، كما أنه أي الجبل يستهل بمحياه أشعة الشمس، ينصت الحاضرون للخطبة من إمامهم الذي يتحدث عن مزايا العيد، بعدها ينفض الجمع ليتجهوا للسلام على موتاهم الذين يتوارون في المقابر، والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة وسكنى الجنة، تواصل حميمي بين الأحياء والأموات ولعلهم في غمرة الفرح عدم نسيان أناس أعزاء لديهم، لا يدوم الوقوف هناك طويلاً حيث ينعطفون في سيرهم إلى منازلهم حيث تنتظرهم القهوة المهيلة والتمر والسمن والخبز، ولمّا كانت القرية عبارة عن بيت كبير لأسر متعددة وكثيرة فإن زياراتهم محتمة للجميع الجميع سواسية، لم أنس أقراني حين تتحول ملابسنا البيضاء إلى لوحات تشكيلية من جراء دهان القطران الأسود الذي تزين بها أمهاتنا الفضليات الأبواب والنوافذ، فعند اتكاءة غير مقصودة يلتصق القطران مشكلاً بقعاً سوداء لا يمكن للماء وصابون أبو ماعز من إزالتها، وتزيين البيوت بطلاء الجدران بالشيدة (نوع من أحجار الجير المسحوق) عادة قروية مستحبة وتمتد مهارة النساء في داخل الحجرات برسم أنيق باستخدام ألوان زيتية.. أما الأبواب فيكون دهن القطران علامة تجارية لهإذ إنه أرخص ثمناً فضلاً عن قوة تحمله لعوامل التجوية، في العصر موعد بهي لأداء العرضة الشعبية في ساحة السوق، تعبيراً عن ابتهاجهم بالعيد، القرية تتحول إلى زهرة جبلية بيضاء، بل هي الحياة التي أرادها الله أن تكون أنيقة وبريئة، القرية هي المدرسة العظيمة التي منها تكتسب القيم الجميلة والعادات الأصيلة، والشعراء هم القادرون على صياغة تلك الأحاسيس بحروف تزهر وتضوع المكان، وفي المساء حين يزهي نور القمر وتظهر النجوم كمصابيح فإن الحكايات تشتعل لتتشكّل مع خيوط القمر أغنيات ليشدو بها الشعراء عند احتدام العرضة وتستمر القصائد تتدفق كنهر فضي يعبر خمائل خضراء، هكذا يكون العيد الذي أصبح مرسوماً كنقش جميل في الذاكرة، لا يمكن للسنين أن تمحوه، ليأمل محبو الجمال إعادة شيء من تلك البهجة بإعادة ترميم منازل القرية التي تهدمت ومحاكاة المواقف السابقة لا لشيء مادي بل لإعادة الفرح المفعم الذي تنطق به أحجار وجداول ومنازل القرية، لعلنا نستطيع...
- جمعان الكرت