من فضل الله جل وعلا ومنته أن حفظ دينه بحفظ مقدساته التي هي أساس لقيام شعائر دينه، كما قال جل شأنه: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ}، قال السعدي في تفسير هذه الآية: يخبر تعالى أنه جعل {الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} يقوم بالقيام بتعظيمه دينهم ودنياهم؛ فبذلك يتم إسلامهم، وبه تحط أوزارهم، وتحصل لهم -بقصده- العطايا الجزيلة، والإحسان الكثير، وبسببه تنفق الأموال، وتتقحم -من أجله- الأهوال.
ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض، ويتشاورون على المصالح العامة، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية.
ومن حفظهما أن هيأ ولاة أمر هذه البلاد لهذا الشأن، ومكنهم من ذلك {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، ولهذا فلا مزايدة على أن هذه الدولة المباركة المملكة العربية السعودية جعلت في أعلى اهتماماتها، وأولى أولوياتها، ورأس مسؤولياتها، خدمة هذه البقاع المقدسة، والأماكن الشريفة، وترى في ذلك أساساً لا يمكن التنازل عنه، ويكفي للتدليل على ذلك ما حظيت به هذه البقاع من خدمات جلى من يقارنها بما مر في تأريخ الإسلام سيجد أن ما قدم في هذه الحقبة السعودية يفوق كل ما مرّ من أعمال وجهود، ولا أدل على ذلك من التوسعات التي نفذت في المسجد الحرام سواء توسعة الملك فهد رحمه الله، أو التوسعة التي ابتدأها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله رحمه الله، وهي في مراحلها الأخيرة في عهد ملك الحزم والعزم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله وحفظه-، هذا من حيث الإعمار والبناء الذي لم يقتصر على المسجدين بل شمل تطوير منطقة المشاعر وما حولها لتكون هاتان المدينتان المقدستان في مقدمة حواضر العالم الإسلامي، وتعبيراً عن هذه العناية المتميزة خلع حكامنا الأوفياء، وقادتنا الأماجد عن أنفسهم الألقاب المستحقة، واختاروا لقب خادم الحرمين الشريفين ليكون ذلك معبراً عن منهج هذه الدولة، تصدقه الأقوال والمنجزات والمكتسبات والمقدرات والخدمات التي تقدمها، وهي تقدم ذلك وترى أنه واجب عليها، ولا تمييز فيها بين قاصدي هذه البقعة من المسلمين، فكل من طلب ذلك فهو حق له حتى لو كان ممن له مواقف أو تصرفات، فإنه لا يمنع من الوصول إلى هذا الهدف الشرعي، وتؤطر هذا العمل الجليل بالتجرد لله جل وعلا عن أي مقاصد سياسية أو أغراض دنيوية.
ونظرة دقيقة فاحصة فيما يقدم من خدمات مقارنة بما يتم في المناطق السياحية، والبلاد التي تقصد لاعتبارات مختلفة يدرك المتأمل حجم البذل والعطاء والسخاء، وما من شك أن ذلك من توفيق الله لولاة أمرنا -حفظهم الله-، وهو من أسباب العز والنصر والتمكين، والآلاء التي نتفيأ ظلالها، ونعيش واقعها، مصداقاً لقول الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، وقوله سبحانه: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وقوله سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وإن هذا التميز الذي نعيشه لم يكن بمعزل عن القرارات الكبرى، والرؤى الإستراتيجية التي تعتمد هذا التميز في كل خطة أو عمل، لتحظى هذه البقاع الطاهرة بأعلى عناية، وأميز خدمة، ولتكون في مأمن من التحولات والهزات الاقتصادية، وشاهد ذلك ما ورد في رؤية المملكة العربية السعودية 2030م، والحديث يلذ ويطيب عن سرد هذه الجهود، والتذكير بها والإشادة بآثارها، ولكنه يكون واجبًا حينما يتحمل المرء أمانة البيان في مقابل الصلف الفارسي، والتعنت الإيراني الذي يأبى إلا الاستغلال والمزايدة، والتشويه والتمسك بما لا يقره شرع ولا عقل من توظيف هذه الشعائر والمشاعر والأزمنة الفاضلة والأمكنة لخدمة التوجهات السياسية، والنوايا السيئة، والأعمال التخريبية، كما يشهد بذلك تأريخهم، وعملهم في هذه الأماكن تحديدًا، والموقف الإيراني الأخير من الاتفاقات التي أرادت المملكة العربية السعودية بها أن تشمل خدمتها كل قاصد لها بغض النظر عن مذهبه وتوجهه ما دام أنه يريد هذه البقعة المقدسة استجابة لأمر الله تعالى قوله لخليله إبراهيم عليه السلام: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، وقوله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
إلا أن الحكومة الإيرانية تصر على موقفها الطائفي البغيض الذي ينطوي على مقاصد سياسية، وتوجهات مشبوهة، واستغلال سيء، وتوظيف لهذه الشعائر والأركان والمشاعر لخدمة الطائفية والصفوية، وكان موقفهم المتعنت سببًا في حرمان المسلمين في دولة إيران من أن يصلوا إلى هذه الأماكن، ويشاركوا المسلمين بالوقوف في هذه المشاعر والعرصات، وأعظم بهذا العمل جرمًا، وأقبح به ليكون شاهدًا من الشواهد التي تضاف إلى السجل الحافل بالفساد والإفساد، والتخريب والإرهاب، والعنصرية والطائفية، والقتل والإجرام، وهم بهذا العمل يشابهون المشركين الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، قال السعدي على هذه الآية: (يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان، والصد أيضا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه والطارئ إليه، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام من حرمته واحترامه وعظمته أن «من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم»؛ فمجرد الإرادة للظلم والإلحاد في الحرم موجب للعذاب، وإن كان غيره لا يعاقب العبد إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم، من الكفر والشرك، والصد عن سبيله، ومنع من يريده بزيارة؟! فما ظنهم أن يفعل الله بهم؟!).
فامتناعهم عن الالتزام بما يضمن سلامة الحجاج، وإبعاد المشاعر وموسم الحج عن المهاترات السياسية، والشعارات المزيفة يعد من الظلم والإلحاد الذي يصرون عليه، وهم بهذا يكشفون الوجه الحقيقي لهم، ونستفتح بهذا أن يكون بداية لنهايتهم، وإن من واجب العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يظهروا هذه الحقائق الوافية، والحجج الواضحة، وأن يبينوا الموقف الشرعي تجاه هذا العبث الإيراني، والتعنت الصفوي، وأن يظهروا هذا الموقف السعودي المبارك الذي تكون دولتنا به أعذرت إلى الله وأبرأت ذمتها من التزامها تجاه المسلمين، وأعطت الفرصة لكل مسلم على السواء، ومن مسؤوليتنا أن نلهج بالدعاء أن يحفظ الله هذه الدولة خادمة للحرمين، وحامية لمقدسات المسلمين، وحارسة لدين الله على النهج الحق الذي هو نهج أهل السنة والجماعة، وأن يمكّن الله لولاة أمرنا ويزيدهم عزًّا ونصرًا وسؤددًا، وقيامًا بالواجب، وأن يحفظ وطننا من كيد الكائدين، وإرهاب المعتدين، وعدوان المضلين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
- وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لشؤون المعاهد العلمية والأستاذ في المعهد العالي للقضاء