أما بعدُ: يُؤتى بها للانتقال من غرض إلى آخر مغاير للأول ولو بالنوع.
ولا يؤتى بها في أول الكلام ولا في آخره، ولا بين كلامين متّحدين.
والإتيان بها في الموضع المشار إليه ثابت في السنّة النبوية، كما في صحيح البخاري، في كتابه عليه الصلاة والسلام إلى هرقل: «أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ...»
وفي خبر بريرة رضي الله عنها: «أما بعد: ما بال رجال ...»
وبوّب البخاري في صحيحه: باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعدُ.
وجاء ذلك عن الأئمة الأعلام الأخيار.
والملحوظ أنها لم ترد في القرآن الكريم في مقام الانتقال إلى المقصود، وإنما جيء فيه بـ»هذا»، كما في قوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ}.
واختُلف في أول من نطق بها على أقوال، أوصلها بعضهم إلى ثمانية: آدم، داود، يعقوب، أيوب، عليهم السلام، قس بن ساعدة، كعب بن لؤي، يعرب بن قحطان، سحبان وائل.
جمع الأقوال الجوهري بقوله:
فهاك خلافا في الذي قد تقدّما
بنطق بـ«أما بعد» فاحفظ لتغنما
* وقيل إنها هي المرادة بفصل الخطاب في الآية الكريمة، ونقل ابن الأثير الأديب الإجماع على هذا في «المثل السائر».
«وأما بعد» قد شغلت حيّزاً من تصانيف أهل العلم قديماً وحديثاً.
وأول من أفردها بالتصنيف - في مبلغ علمي - هو إسماعيل بن غنيم الجوهري (ت 1165) في أكثر من مصنّف، من ذلك: إنجاز الوعد بمسائل أما بعد، ثم شرحها بـ«إحراز السعد».
وقد منّ الله عليّ بتحقيق إحراز السعد على نسختين خطيتين، إحداهما مطرزة بحواشٍ مفيدة.
أما ما ذهب إليه د.محمد بن يعقوب التركستاني، في مقدمة تحقيقه لكتاب الجوهر الفرد للدملّيجي بقوله: إنه - الدمليجي - يُعدّ رائداً في إفرادها في مجموعة في تصنيف مستقل، فليس ثمة من أفردها قبله - في علمي - في كتاب بهذه الصورة. انتهى كلامه.
والدملّيجي توفي سنة 1234 وبهذا تعلم أنه مسبوق من قبل الجوهري المتوفى 1165 وبأكثر من مصنف، كما سأذكره إن شاء الله.
والمصنف الآخر للجوهري في المسألة هو: حلية ذوي المجد.. وقد حصلت له ثلاث نسخ، إحداها بخطه رحمه الله، وستخرج ضمن السلسلة بإذن الله.
قد حاولتُ استقصاء من أفردها بالتصنيف قديماً وحديثاً، فأوصلتهم إلى 15 مصنّفا مفرداً، أعمل بإذن الله على نشر ما تيسّر منها على نسخ خطية ضمن السلسلة المشار إليها.
كما ذكرتُ بالتفصيل وبالعزو الموثق الأقوال في أول من نطق بها.
كذلك ما قيل في «أما بعد» من النظم.
يُشار إلى أن إحراز السعد طبعت قديماً بهامش كتاب البسملة للصبان.
ثم وقفتُ على طبعتين أخريين بتحقيقين متغايرين، لكن لم يعتمد أي منهما على النسخة المطرزة بالحواشي، والتي اعتمدتها. والله الموفق.
- قاله بلسانه وزبره ببنانه/ راشد بن عامر الغفيلي (الرسي)