في مراجعة لمسيرة الأمير سلطان بن سلمان مع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني توقفت عند مقولة لسموه لدى مشاركته في الطاولة المستديرة بالجامعة الوطنية السنغافورية عام 1431هـ حينما قال: «إن الهيئة بدأت فعلياً في تطبيق اللا مركزية منذ وقت طويل، وإن الإدارات المحلية ستكون هي المستقبل، وسيتم إدارتها بطرق الإدارة الذاتية تحت إشراف حكومي».
أعجبتني جداً هذه الفلسفة الإدارية الجريئة، والتي جاءت لتشير لبدايات مبكرة في أسلوب توزيع المهام والمسؤوليات وتشجيع المبادرات على صعيد القطاعين الحكومي والخاص، لا سيما تلك التي تستهدف الأقاليم المكونة من مدن ثانوية متعددة والتي تمثّل المرتكز الرئيس لمخرجات الإستراتيجية العمرانية الوطنية.
داخل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني هناك تركيز كبير على تفعيل الإدارة الإقليمية في تنمية السياحة والتراث الوطني من خلال توسيع صلاحيات فروع الهيئة، وتمكين الإدارة المحلية بالمناطق لممارسة دور رئيس في إحداث تغيرات كمية ونوعية إيجابية في مؤشرات تلك التنمية، ذلك ناتج عن قناعة عملية مكونها رؤية متطورة، وتجربة ثرية، وإدراك مهني، ورحلات عمل ميدانية طويلة لرئيس الهيئة ومسئوليها. هناك إيمان كبير بأن رقعة عمرانية مترامية الأطراف على مساحات شاسعة مثل المملكة لا يمكن إدارتها سياحياً والتحكم بها من العاصمة الرياض، لذلك فالتوجه نحو اللا مركزية في إدارة السياحة والتراث الوطني على مستوى المناطق بات محوراً رئيساً في إستراتيجية التغيير التي تقودها الهيئة، ومنهجاً محترفاً يعزز ممارسة تطبيقات عملية على أرض الواقع.
يقول الزميل مهند أبو عبيد وهو إعلامي شاب ومقدم برامج متنوعة، إنه وخلال رحلته العملية في مناطق المملكة لإعداد حلقات برنامجه الجديد (حول المملكة) اكتشف أن «الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، سبق وأن زار معظم المواقع التي مر بها حتى النائية منها».
ولم يكن غريباً أن نسمع مثل هذا الرأي، ففي بداية عملي في حقل السياحة والتراث الوطني زرت جميع مناطق المملكة للتعرف على المواقع السياحية أو تلك المرتبطة بتراثها العمراني، وبعد زيارات متعددة ومتنوعة الوجهات للمدن والمحافظات والمراكز والقرى توصلت إلى حقيقتين رئيستين، الأولى أنني كنت أتوقع معرفتي الجيدة بمناطق المملكة وخصائصها - عطفاً على تجربتي العملية في التخطيط العمراني - إلا أن المفاجأة كانت في ثراء حضري كامن، وعالم آخر من العمران مليء بثقافة إنسانية طاغية لم أكن أعرفها من قبل، والحقيقة الثانية أن الأمير سلطان بن سلمان كمسئول أول عن السياحة والتراث الوطني كان حاضراً في المشهد المكاني بكل تفاصيله، وقد وضع بصمة «مرّ وهذا الأثرْ» في كل الأماكن التي وقف عليها، وصاغ مفردة «وَكُنَّـا التَقَيْنَـا» على لسان كل أولئك الناس الذين قابلوه وعاشوا معه أحلامه، وعاش معهم همومهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم، لا يكاد أن تجد موقعاً سياحياً أو ذا علاقة بالتراث الوطني إلا ويحمل سيرة أو تاريخاً أو موقفاً في سجلاته مع الأمير سلطان بن سلطان، وحتماً ما كان هذا الحراك الميداني إلا هدفاً رئيساً لوضع حجر الأساس لمنظومة إقليمية مستقبلية تنشأ من قلب المكان.
«ذاكرة المناطق»، ستكون عملاً فريداً من نوعه إذا ما استطاعت كل منطقة أن ترصد وتوثق بشكل علمي ممنهج ما كان في ذاكرتها من مواقف وأحداث وحكايات ارتبطت برحلات الأمير سلطان بن سلمان لتلك المناطق كـ»سيرة ذاتية» لها.
أجزم أننا سنكون أمام ثراء معرفي، ومرجع أصيل، وتجربة نوعية «واقعية» لقيادي المستقبل في تبني أسلوب مختلف في تحسين نظام الإدارة العمرانية الوطنية ومنح مرونة أكثر في صنع واتخاذ القرارات ومواجهة المتغيرات ورفع الكفاءة التنظيمية للأجهزة التنفيذية على مستوى مناطق المملكة.
بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن