تناولت في مقالة سابقة موضوع موقع أرامكو من قانون الحصانة السيادية الأجنبية الأمريكي، وأشرت فيها إلى أن القانون سابق الذكر يضفي الحصانة السيادية على الدولة الأجنبية، وأجهزتها السياسية، ومنشآتها، وفق التفصيل الوارد في القانون المذكور، والأحكام القضائية المفسّرة له؛ فيحجب الاختصاص الموضوعي عن القضاء الفدرالي الأمريكي في مثل هذه الدعاوى ويمنعه من النظر فيها، إلا في حالاتٍ محددةٍ مستثناة من ذلك؛ وبينت أيضاً أن السوابق القضائية الأمريكية تشير إلى أن الحصانة السيادية، وفق القانون المذكور فيما تقدم، تسري على المنشآت التي تكون ملكية الدولة فيها من الدرجة الأولى، أي هي ملكيةٌ مباشرةٌ، ولا تسري على المنشآت التي تكون ملكية الدولة فيها من الدرجة الثانية، أي هي ملكية غير مباشرة كأن تكون من خلال منشأةٍ، أو كيانٍ آخر تابع للدولة الأجنبية، ويكون للكيان الذي تتم الملكية من خلاله شخصية قانونية مستقلة عن الدولة وأجهزتها السياسية.
وسوف أتناول في هذه المقالة بعض تبعات فقدان المنشأة للحصانة السيادية الأجنبية في المحاكم الفدرالية الأمريكية، كما قد يحدث لأرامكو في حال تغيرت ملكية الدولة فيها على نحوٍ قد يفضي إلى ذلك، وهي خضوع المنشأة للاستكشاف، وكذلك خضوعها لمحاكمة يشترك في الحكم فيها هيئة محلّفين، وجواز إقامة الدعوى ضدها في محاكم الولايات، وليس فقط في المحاكم الفدرالية.
والاستكشاف (Discovery) باختصار هو تمكين المدعي من الوصول إلى المعلومات المُنتِجة ذات الصِّلة بالاختصاص، او الموضوع، التي تكون بحوزة المدعى عليه، سواءً كانت معلومات شفهية يحملها المدعى عليه في ذاكرته، أو كانت مكتوبة يحفظها في وثائق لديه. أي أن المدعي يستطيع بواسطة الاستكشاف استجواب المدعى عليه، والوصول إلى ملفاته، لاستقاء الأدلة اللازمة لإثبات ما هو بصدد إثباته، سواءً كان ذلك في الاختصاص أو كان في الموضوع. وإذا امتنع المدعى عليه عن الاستجابة لأمر الاستكشاف دون عُذرٍ تقبله المحكمة، عندها للمحكمة أن تفرض عقوبات على المدعى عليه، بما في ذلك تقرير ثبوت ما امتنع المدعى عليه عن الكشف عنه من وقائع ادّعى بها المدعي، والفصل في الدعوى استناداً إلى ما قررت المحكمة ثبوته حكماً. والمحلّفون أفرادٌ من عامة الناس يُعيّنون لنظر الدعوى مع القاضي. ودون الخوض في التفاصيل، فمتى اشترك في نظر الدعوى محلّفون، فيمكن إجمالاً القول إن القاضي يفصل في المسائل القانونية ويفصل المحلّفون في وقائع الدعوى. وتقضي القواعد القضائية الأمريكية بأن للمدعي في دعوى التعويض أن يطلب تعيين هيئة محلّفين للنظر في دعواه، وأن على المحكمة إجابة هذا الطلب بالقبول إلا في حالاتٍ محددةٍ مستثناةٍ من ذلك.
وأخيراً، ودون الخوض في التفاصيل، فإن الدعوى ضد الشخص العادي الذي لا يتمتع بالصفة السيادية، يمكن إقامتها في محكمة فدرالية، كما تجوز إقامتها في بعض الحالات في محكمة إحدى الولايات، متى توفر للمحكمة الاختصاص اللازم لذلك.
وهنا، تكمن بعض أهم مزايا تمتع المدعى عليه بالصفة السيادية، عدا عن المزية الأساس وهي الحصانة من الخضوع لقضاء دولة أخرى في دعوى تعويض. فعندما يكون المدعى عليه شخصاً سيادياً، عندها لا يتيسر الأمر بالاستكشاف لصالح المدعي في الدعوى بالقدر الذي يتيسر فيه ذلك في حال أن المدعى عليه ليس بشخصٍ سيادي. فقد سار القضاء الأمريكي على أن الحصانة التي يضفيها القانون موضوع البحث هي حصانة عن المسؤولية وكذلك حصانة عن أعباء التقاضي. لهذا، فبينما تجنح المحاكم عموماً لقبول طلب الاستكشاف في الدعوى التي تقام ضد شخص غير سيادي طالما كان الطلب لمعلومات ذات صلة بالدعوى ومُنتِجة فيها، فإن طلب الأمر بالاستكشاف في الدعوى التي يدفع فيها المدعى عليه بالحصانة السيادية يخضع لسلطة المحكمة التقديرية، ويلزم على المحكمة عند النظر في مثل هذا الطلب «ممارسة الحذر الشديد»، وحصر أمر الاستكشاف الذي قد تصدره فيما له علاقة «بوقائع محددة منتجة في تقرير سريان الحصانة السيادية»؛ أي أن أمر الاستكشاف لا يأتي تلقائياً بمجرد طلب المدعي للأمر، بل يخضع الطلب لموازنة تراعي فيها المحكمة صفة المدعى عليه السيادية، وأهمية احترام هذه الصفة مراعاة لما يطلق عليه مبدأ «حفظ الود» (Comity). وتجنح المحاكم الأمريكية عادة إلى الامتناع عن الأمر بالاستكشاف في حالة الأشخاص السيادية إلا في مسائل محددةٍ وضيقةٍ جداً، كأن تسمح بالاستكشاف فيما له علاقة بتحقق صفة المدعى عليه السيادية.
كذلك يستثني قانون الحصانة السيادية الأجنبية الأمريكي دعوى التعويض التي تقام ضد شخصٍ سيادي من الدعاوى التي يجوز فيها إشراك هيئة محلّفين في نظر الدعوى، فلا يسمح القانون بأن ينظر في مثل هذه الدعوى محلّفون، وإنما ينظر فيها، ويفصل بكل جزئياتها، قاضٍ فدرالي محترف.
كما يقضي قانون الحصانة السيادية الأجنبية الأمريكي بأن لا ينظر في الدعاوى التي يدفع فيها المدعى عليه بالحصانة السيادية سوى المحاكم الفدرالية، وذلك حرصاً على توحيد جهة الاختصاص بهذه الدعاوى، وإبعادها عن التأثيرات المحلية في الولايات، خاصة وأن تنصيب القضاة في محاكم بعض الولايات يكون بالانتخاب من قبل الناخبين في الولاية، لا التعيين.
وهكذا، فإن عدم تمتع المدعى عليه في دعوى التعويض بالحصانة السيادية يعني إمكانية إقامة هذه الدعوى في محكمة من محاكم الولايات، وخضوع المدعي عليه لأوامر استكشاف واسعة النطاق، تسمح للمدعي في استجواب المدعى عليه والوصول إلى ملفاته، وتخضعه لعقوبات جسيمة في حال امتناعه عن الاستجابة لهذه الأوامر، أو حال إخفائه لمعلومات طُلِب منه كشفها للمدعي، عدا ما تُحمّله هذه الأوامر المدعى عليه من عبء كبير في الامتثال لها، خاصة في حال المنشآت الكبيرة، التي يكون لها ملفات كثيرة تحتوي معلومات بالغة الحساسية. وفوق هذا كله، يشترك في النظر في وقائع الدعوى، والحكم فيها، محلّفون من عامة الناس، لا ممارسة لهم في القضاء، ولا يُستغرب تأثرهم بتوجهات الشارع الأمريكي وعواطفه السائدة. فإذا أخذنا بالاعتبار أن الإثبات في دعاوى التعويض لا يلزم فيه الوصول إلى حد اليقين، بل يكفي فيه تقرير الحاكم بأن حدوث الواقعة محل النظر أكثر احتمالاً من عدم حدوثها؛ وكذلك إذا أخذنا بالاعتبار أن المحلّفين، الذين هم من عامة الناس، سوف يمارسون سلطتهم التقديرية في الدعوى، وكانت من مدعٍ أمريكي ضد شخصٍ سعودي كأرامكو، وعلمنا مدى ما قد تكون بلغته مشاعر الشارع الأمريكي من استياء حيال السعودية ومواطنيها، وما قد تكون بلغته صورتهم من سلبية في هذا الشارع، فلنا أن نتوقع ما قد ينتهي إليه حكم مثل هؤلاء المحلفين في مثل هذه الدعوى.
هذا موضوعٌ لا شك ينطوي على تفاصيل، إلا أن فقدان أرامكو للحصانة السيادية التي يكفلها لها حالياً قانون الحصانة السيادية الأجنبية الأمريكي، في حال تغيرت ملكيتها على نحوٍ يفضي إلى ذلك، هو أمر تجدر دراسته والنظر فيما يحسن عمله حياله.
- زياد بن عبدالرحمن السديري