في صبيحة اليوم السادس من شهر ذي الحجة (1436هـ) تلقيت خبر وفاة شيخنا العلامة القاضي محمد بن عبد العزيز بن سعد (السبيعي) الفاضل، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه، وكنت في مدة ملازمتي له قد سمعت الكثير من أخباره الحسنة، وسيرته العطرة، رأيت تقييدها ونشرها لما له عليّ من حق، فأقول:
* ولد الشيخ في جلاجل عام 1354هـ علماً أن المثبَت في الأوراق الرسمية 1351هـ، وقد فقدَ بصره بالجدري عام 1360هـ أو 1361هـ تقريبًا.
حفظ شيخنا القرآن في أول طلبه، ومن مشايخه في ذلك بجلاجل: ابن حماد ومحمد بن عبد الرحمن الربيعة وفوزان القديري رحمهم الله، ودرس مبادئ التجويد والعربية على الشيخ عبد العزيز بن أحمد السلمان حفظه الله, وكان كثير المراجعة له، ولذا لما عاد إلى الرياض عاودَ مراجعة القرآن عند الشيخ إبراهيم المغربي لكنه لم تطل مدة قراءته عليه لتزاحم التزاماته بدروس المشايخ الآخرين ودراسته النظامية مع حلقة الشيخ المغربي.
* وكان شيخنا يحفظ عدداً من المتون العلمية التي حفظها في أول طلبه بعد حفظه للقرآن مثل ثلاثة الأصول وكتاب التوحيد وكشف الشبهات وبلوغ المرام وألفية ابن مالك وأكثر زاد المستقنع، وغيرها، أما محفوظاته الأدبية فمع حفظ بعض المعلقات ولامية العرب، ولامية العجم كان شيخنا يحفظ ثلاثين مقامة من مقامات الحريري يقرؤها من حفظه كما يقرأ أحدنا الفاتحة، مع العديد من المقطوعات الشعرية والنثرية وكان من أحب المحفوظات إليه أبيات الصفدي الجَد في الجد، وقصيدة الوعيظي في الآداب، ونونية القحطاني وغيرها.
وذكر لي شيخنا أنه كان يستأجر من يقرأ له للحفظ الساعة بربع ريال وكأس من الشاي، في أول طلبه، ثم بعد ذلك كان إخوته يقرؤون له وخصوصاً أخاه إبراهيم، أو بعض أقرانه.
في حدود عام 1368هـ إلى عام 1373هـ أقبل الشيخ محمد السبيعي الفاضل على حِلق العلم بالرياض بشغف بالغ وكان عمره آنذاك 15 سنة تقريبًا.
وكان قبل سنة 1366هـ قد تردد على الرياض وكان ينزل في بيت عمته وقد اصطحبه بعض طلاب العلم لعدد من علماء الرياض وجالسهم من أمثال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ولم يقرأ عليه شيخنا لصغر سنه في ذلك الوقت ولكنه حضر بعض المجالس التي يقرأ فيها بعض كبار الطلاب، وكان شيخنا يزوره مدة بقائه في الرياض كل جمعة مع طلاب العلم، حيث كان من عادة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ فتح بابه بعد صلاة الجمعة للطلاب وكان يفرش لهم السُّفَر ويضع عليها التمر والماء غالباً وربما اللبن والقهوة أحياناً، فيطعمون ويسأله كبار الطلاب في المسائل العلمية ويستفيد منه الجميع، ويذكر شيخنا موقفاً يقول: تأخرنا عن الذهاب في يوم جمعة وكان ذلك اليوم قد زار الشيخَ الملكُ عبدُ العزيز وعدد كبير من الأمراء وحاشيتهم فكان العدد كبيراً عن المعتاد فلما وصلنا وقد انصرف الملك، قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف: أحسن الله عزاكم في غداكم ومعوضين إن شاء الله، ولم يكن إلا التمر والماء فقد كانت تلك الأيام شديدة الجوع لتوقف النقل بسبب الحرب العالمية.
وممن حضر لهم شيخنا في الرياض الشيخ عبد العزيز أبو حبيب الشثري حضر له في ثلاثة الأصول وفي الفقه وغير ذلك، وحضر بعض مجالسه، وأثنى شيخنا عليه وذكر من شأنه وعظّم ما حباه الله له من الحكمة وسداد الرأي, وكان شيخنا كثير الثناء على الشيخ أبي حبيب جداً خصوصًا في الفقه.
وأما شيوخه الذين تلقى عنهم وطالت مدة جلوسه عندهم:
فمنهم الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم وكان طالبًا رسميًّا عنده؛ حيث درس عليه النحو, والفرائض، وثلاثة الأصول مراراً.
ومنهم - بل هو أجلّهم في نفس شيخنا -: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فلازم شيخنا دروسه مستمعاً ومستفيداً مدة تزيد على خمس عشرة سنة حضر عليه في العديد من الكتب، وقد رتّب الشيخ محمد بن إبراهيم دروساً عُرفت بـ (مجالس العلم) في مسجده لعدد من أهل العلم بعد العشاء: فكان الشيخ عبد الرحمن الإفريقي يشرح صحيح مسلم أخذ منه قدر الثلث ولم يتمه، والشيخ عبد الرزاق عفيفي في تفسير سور الرحمن والواقعة والحديد وقد انتهى منها، والشيخ عبد العزيز بن باز في تفسير سورة مريم من تفسير الحافظ ابن كثير، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسير سورة البقرة أوشك أن يتمها، والشيخ أحمد القط في تفسير سورة الفرقان، كان كل يوم مجلس لشيخ منهم إلا الشيخ الشنقيطي فله يومان، حضر شيخنا هذه المجالس وأفاد منها.
وفي عام 1374هـ قُبِلَ للدراسة بالرياض للمرحلة الابتدائية (التي تكون قبل المعهد) وكان في العشرين من عمره, وكانت الدراسة بالابتدائية آنذاك سنتين: أولى وثانية فقط. أولى: تعادل خامس ابتدائي, وثانية تعادل سادس ابتدائي, وبعدها تكون الدراسة بالمعهد, بعدها تلقى شيخنا العلم على ثُلة من أهل العلم الذين دَرَّسوا أوائل الدفعات في المعهد العلمي وجامعة الإمام محمد بن سعود، فمن المشايخ الذين تلقى الشيخ عنهم في المعهد العلمي وكلية الشريعة: الشيخ عبد العزيز الداود، والشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين، والشيخ صالح العلي الناصر، والشيخ يوسف البرقاوي، والشيخ محمد بن عبد العزيز بن مهيزع، والشيخ عبد العزيز بن محمد بن زاحم، والشيخ عطية محمد سالم، وأحمد بن عبد الرحمن البرقاوي، والشيخ عبد الله الغديان، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ أحمد بن حميدان من أهل الزلفي, والشيخ عثمان الحقيل، والشيخ عبد الله بن قعود, والشيخ محمد الدَّهْمي من مصر، والشيخ راشد بن زنَّان من أهل الأفلاج.
وبعد إنهاء دراسته النظامية التحق بالخدمة الوظيفية قاضيًا 39 سنة, حيث عُين بعد تخرجه من الكلية مباشرةً ملازمًا بمحكمة الرياض, ثم رسميًّا بمحكمة الهَدَّار في (18-7-1387هـ) ومكث بها خمس سنوات إلا شهرين من عام 1387-1392هـ, ثم انتقل إلى محكمة عسيلة وبقي بها خمس سنوات إلى عام 1396هـ, ثم انتقل إلى محكمة المجمعة وبقي بها 22 سنة, وانتقل بعدها إلى محكمة التمييز بمكة قاضيًا للتمييز خمس سنوات ثم سنتين متعاقَدًا معه بها, إلى أن أنهى الخدمة بالقضاء عام 1423هـ فمجموع خدمته 39 سنة.
* وكان شيخنا رحمه الله قد حاول جاهداً قبل ذلك التخلص من القضاء ليعمل في التدريس، ولم يتيسر له ذلك، حيث رُفِض طلبه من قِبل الشيخ محمد بن إبراهيم، الذي ألزمه بالقضاء ووعده بمساعدته فيما يشكل عليه، وكان شيخنا قد احتال في تغليط نفسه في الإجابة على الأسئلة التي كانت توجه له، أملاً في صرف النظر عن تعيينه قاضياً، ولكنها حيلة لم تُفلح، فتولى شيخنا مهامَّ عمله بجد ونشاط ومثابرة، وحرص على إنجاز جميع القضايا التي تُرفع له، باستثناء تلك القضايا التي تحتاج إلى تأمل وبحث، فكان يؤخرها حتى يظهر له فيها شيء، وربما سافر للرياض بنفسه ومن ماله الخاص لمشاورة شيخه ابن زاحم أو غيره في بعض القضايا التي تُشكل عليه.
* كان شيخنا مقداماً لا يهاب مع كونه كفيف البصر، عندما كان قاضياً في الهدار دعاه أميرها راشد بن نمشان رحمه الله مع بعض أعيان الهدار للغداء في بَرٍّ قريب (أرض مستوية لا شجر فيها ولا حجر)، فلما تناولوا الغداء وشربوا الشاي، قال لهم الشيخ بعد أن تجاذبوا أطراف الحديث: من يسابق؟! فعجبوا منه لكونه كفيف البصر، فسابقهم وسبقهم.
* وقد أمَّ شيخنا في عدد من المساجد في الرياض والهدار وعسيلة والمجمعة ومكة مع تولي الخطابة في بعضها، كما أم في التراويح في بعض القصور الملكية، وحينما تعرفت عليه سنة 1421هـ في مكة كان إماماً لأحد المساجد المجاورة لمنزله في حي العدل.
* ولشيخنا باع كبير في علم النسب، وكان من المبرزين فيه في الأنساب القديمة والحديثة، ولا سيما أنساب أهل نجد، حتى قال لي الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله الشيخ محمد السبيعي ينْخل أهل نجد نخل، وذلك لشدة معرفته بالأسر النجدية وأنسابها، وله في علم النسب اختيارات وتعقبات وتصحيحات على بعض المصنفين فيه من المتقدمين والمتأخرين، وقد قرأ عليه بعض طلاب العلم فيه، وممن قرأ عليه فيه شيخنا صالح بن عبد الله العصيمي, حيث قرأ عليه في بعض متون علم النسب، وكان الشيخ منصور بن مبارك السفري وهو من خاصة الشيخ من أكثر من يتباحث هو والشيخ في ذلك.
* وشيخنا رحمه الله ممن يتذوق الشعر ويقوله، فله بعض القصائد الجزلة من الشعر النبطي أسمعني بعضها، وكنت رغبت في كتابتها أو تسجيلها فأبى ذلك، وأسمعني أبيات الشافعي في ذلك (ولولا الشعر بالعلماء يزري)، وقد سمعت منه ثلاث قصائد أو أربع متوسطة الطول، وسمعها غيري منه.
* وشيخنا لا يحب التباهي ولا التفاخر ولا يحب أهلهما، متواضع محب للخير وأهله، ساعٍ في خدمة الناس جهده، ونفعهم بما يستطيع، مع كرم نفس، وبعدٍ عن سماع كل ما يشين من التوافه، وأخبار الشر وكل ما يسوء.
ومن خدمة الشيخ للناس وسعيه لهم: السعي بالجاه، والبخيل من بخل بجاهه، فسعى شيخنا وهو طالب في المعهد العلمي لعدد من طلاب العلم في قبولهم في المعهد العلمي كدارسين، وقُبلت شفاعته فيهم، وكان شيخنا لا يتردد في كتابة الشفاعات لمن طلبها منه، وكتبتُ عدداً منها بأمره يمليني ثم يمهرها بختمه الذاتي منشرحة نفسه، ويدعو لصاحبها بالتوفيق، ولا أذكر شفاعة سعيت فيها عنده إلا وكتب في شأنها، ولم يكتب لأحدٍ إلا وأمضى الله شفاعته، وله في ذلك عدة أخبار وقفت عليها بنفسي.
* وكان شيخنا رحمه الله مرهف الحس، جياش المشاعر، سريع الدمعة، رأيته مراتٍ يبكي مع محاولته كظمه، وذلك إذا ذكر بعض شيوخه أو زملاءه أو إذا ذكر أخاه إبراهيم.
* وكان شيخنا يحفظ العديد من الأدبيات القديمة والحديثة، ويؤنس بها جلساءه ومحبيه وزائريه، وقد قيدت عنه بعضاً من الأخبار الأدبية لشعراء نجد وأعيانها، مما يروى في المجالس، وهي في شتى أنواع الأدب من حكمة ومدح ورثاء وغزل.
* ومن المعلوم أن الله حكيم عليم فيمنع عن عبده شيء، ويعوضه بأشياء، فكان شيخنا مع كونه كفيف البصر على ذكاء باهر، وفِراسة حادة، وبصيرة نافذة، وله في ذلك أخبار هي أشبه بالخيال.
* وقد جمع شيخنا - مع كونه كفيف البصر - أثناء طلبه للعلم مكتبة حوت العديد من الكتب في شتى الفنون كتباً صغاراً وكباراً، وكان شيخنا محباً للقراءة شغوفًا بها، وكان ربما استأجر من يقرأ له إن لم يكن بحضرته من يقوم بذلك، وكان أكثر من قرأ له في أثناء الدراسة أخوه الأستاذ إبراهيم رحمهما الله، حيث قرأ له الكثير من الكتب، وفي آخر خمس عشرة سنة التي عرفت فيها الشيخ كنت وغيري من طلاب العلم الذين يترددون عليه لا يخلو مجلسنا من القراءة، وقد قُرئ على شيخنا الكثير من الكتب الصغار والكبار, من الرسالة اللطيفة إلى المجلدات التي تبلغ العشرين مجلداً، في الفقه والتفسير والحديث والأدب والرقائق والتاريخ، وكان كثيراً ما يختار الكتب التي تُقرأ ويطلبها، وقد أوقف شيخنا مكتبته وجعلها قسمين: قسم أُوقِفَ في مكتبة جامعة شقراء، وقسم أوقف في مكتبة شقراء العامة، وقد تولى ذلك ابنه الدكتور الفاضل عبد الله وكيل جامعة شقراء.
* كان شيخنا سديد الرأي فيما يشير به، وذلك لملازمته الكبار في أول حياته ولطول خبرته بالناس وتجربته معهم، ومرور الكثر من القضايا التي صقلت رأيه، لذا كان شيخنا مقصداً لعددٍ من طلابه ومعارفه يستشيرونه فيما يعرض لهم من أمور الحياة التي يحتاجون فيها إلى من يرشدهم، فكان الشيخ الناصح الأمين.
* ولشيخنا في تعبير الرؤى باع، ولم يكن يحب أن يُعرف هذا عنه، وقد عبّر لي ولغيري كثيراً من الرؤى إن كانت خيراً فسرها، وإن كانت غير ذلك أوصاه بما تقتضيه الرؤيا مع القول بأنها لا تضرك.
والجوانب العلمية والعملية والاجتماعية في حياة شيخنا أكثر من أن يجمعها مقال، وأسأل الله أن ييسر جمع ما عندي من مقيدات عنه مع الإفادة من أقاربه وذويه وطلابه في ذلك.
... ... ...
هاني بن سالم الحارثي - عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية - الرياض