ما زالت ذاكرة الأمة الإسلامية تحتفظ بالكثير مما يوحِّدها، ويجمع كلماتها ولا يفرقها. ما زال هناك تاريخ عميق يضرب جذوره في ذاكرتنا، ووعينا، كانت تصهرنا فيه المصائب، وتوحدنا فيه الحوادث، وتجمعنا فيه أفراحنا وأتراحنا. هذا التاريخ الممتد والمتلاحم ينبغي أن نتذكره دائماً، ويذكِّر بعضُنا بعضاً به؛ حتى لا نُصاب بالخرف «الزهايمر» العقلي والأخلاقي. لقد تذكرت، وأنا أغالب نفسي على متابعة المشاهد الدموية لقصف النظام السوري المدعوم بالطيران الروسي على مدينة حلب، تذكرت «سليمان الحلبي»، ذلك الشاب السوري الذي خرج من حي البياضة في حلب السورية متوجهاً إلى القاهرة، بلد الأزهر الشريف، حيث تلقى العلم وعاش فيها ثلاث سنوات من عمره من قبل، ليثأر لأزهرها ولأهلها مما حدث لهم على يد الغزاة الفرنسيين، فيقتل قائد الحملة الفرنسية على مصر الجنرال «كليبر»، غير مبالٍ بما سوف يحدث له. هذا الشاب البسيط النقي آلمه ما سمع وما شاهد من مجازر للمسلمين في مصر، وفي الشام، على يد الفرنسيين الغزاة، لم يذهب إلى باريس متمنطقاً بحزامٍ ناسف، بل جاء إلى مصر ومراده كما قال في التحقيقات معه «أن يغزو في سبيل الله». جاء من حلب إلى القاهرة دفاعاً عن أرض الإسلام وأهلها.
لم يجد سليمان من الكتِّاب من يسخِّر قلمه لإلقاء الضوء عليه، لم يجد صحفاً تهلل لبطولته، أو حتى تدافع عنه، بل اتهمه البعض بأنه قاتل مأجور. لم يكن يملك برنامجاً في فضائية، هوائية الميل، يثرثر فيه عن بطولته كغيره الذين يثرثرون عن بطولات زائفة، فقط.. طواه التاريخ، كما يطوي الأنقياء الأخفياء. شاب من حلب كان مراده الدفاع عن أمة الإسلام، ونحن اليوم أمة يزيد عددها عن المليار لا نستطيع الدفاع عن شاب من حلب، أو امرأة منها أو طفل.
لقد كان احتلال مصر رغبة فرنسية، وأملاً لساساتها وقادتها، منذ أن تطلعوا إليها في حملاتهم الصليبية في عهد الدولة الأيوبية، فكانت حملتهم الأولى التي عرفت بالحملة الصليبية الخامسة عام 1221م وكان مصيرها الفشل، وكانت الثانية، الحملة الصليبية السابعة عام 1250م، ومنيت بهزيمة منكرة. وظل الفرنسيون يراقبون أحوال مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى إذا دبّ الضعف في أوصال الدولة العثمانية ذات السيادة على مصر، كانت حملته بقيادة الجنرال، «نابليون بونابرت»على مصر (1798-1801م). وكانت تهدف إلى جعل مصر نواة لإمبراطورية فرنسية في الشرق، وقطع الطريق بين بريطانيا، العدو اللدود للفرنسيين، ومستعمراتها في الهند، هذا بخلاف استغلال ثروات مصر لدعم غزوات فرنسا في أوروبا.
تألفت الحملة من نحو 35 ألف جندي، تحملهم 300 سفينة تقودهم سفينة القيادة، ويحرسها أسطول حربي فرنسي مؤلف من 55 سفينة، وبلغت الإسكندرية يوم 28 يونيو 1798م.ومنذ أن وطأت أقدامها مصر، ما انفكّت عن النهب والقتل لكل من يقاومها، كما أنها لم تهنأ براحة وأمن، فلم يكن يمر يوم دون هجمات يشنها البدو أو سكان القرى والمدن والعثمانيين والمماليك. ولم ينخدع المصريون بمسوح التودد والتقرب التي أبداها «نابليون»، الذي ادّعى إيمانه بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وارتدى العمامة والجلباب، وتردد إلى المسجد في أيام الجمعة طالباً مساعدة المسلمين له ليعم الرخاء مصر. فكانت ثورة القاهرة الأولى في 22 أكتوبر 1798م، ليخلع «الشيخ» نابليون قناع الود والتسامح ويأمر بضرب القاهرة بالمدافع من فوق جبل المقطم بلوضرب الأزهر الشريف مركز الثورة، ثم دنسه وجنوده بخيلهم وأحرقوا كتبه وأسالوا دماء المسلمين في رحابه. وفي طريقهم إلى الشام لملاقاة جيش العثمانيين الذين سمعوا بقدومه، قتلوا من قاومهم من سكان العريش، وكذلك في «يافا» التي سلبوها، وعاثوا فيها تدميراً وقتلاً، وعرض نابليون حق الخروج الآمن لكل من يستسلم من حامية حصنها، فاستسلم الجنود حتى لا يلحق الفرنسيون مزيداً من الدمار بالمدينة، وسيقوا أسرى إلى نابليون، وبلغ عددهم 4000 أسير، فأمر بقتلهم جميعاً طعناً بالحراب لتوفير الذخيرة.
وبعد أن قاومته مدينة عكا شديدة التحصين، بعد حصار دام 62 يوماً، عاد نابليون بجيشه المنهك إلى القاهرة، فلم يكد يتنفس الصعداء حتى فوجىء بجيش عثماني على ساحل خليج أبي قير فيخرج متجهاً شمالاً، وفي ذروة حنقه ينقض على الجيش العثماني ويلحق به هزيمة منكرة. ورغم هذا الانتصار، أيقن بونابرت أنه محاصر بدائرة من الأعداء في البر والبحر من المصريين والعثمانيين والإنجليز، وأن الحملة تتلاشى فرص نجاحها، وتبخر حلمه في تكوين إمبراطورية شرقية على أسوار عكا، وأن مكاسبه التي حققها في أوروبا بدأت في الانحسار والنكوص. فعاد نابليون تحت جنح الليل إلى فرنسا تاركاً قيادة الحملة للجنرال «كليبر» الرافض لها، مع مجموعة من النصائح، وتِركة مثقلة بالديون، وجيشاً يتناقص عدد جنوده كما تتناقص معنوياتهم يوماً بعد يوم.
ازدادت مقاومة المصريين وتأهب أهل القاهرة للقيام بثورتهم الثانية عام 1800م والتي استمرت خمسة أسابيع متصلة، فقام كليبر بتدمير حي بولاق ثاني أهم أحياء القاهرة في ذلك الوقت بالقنابل، وقال المؤرخ «الجبرتي» عن ذلك: «صارت القتلى في الطرقات والأزقة واحترقت الدور والقصور». وزاد على ذلك أن أجبر المصريين على دفع غرامات مالية تساوي تكاليف ما خرّبته الثورة.
وفي هذا التوقيت، وهذه الظروف، كان قد وصل على القاهرة الشاب سليمان الحلبي، صاحب الأربعة وعشرين عاماً (1777-1801م) قادماً من حلب في سورية، بعد أن مرّ على بيت المقدس ثم غزة ومنها إلى القاهرة. ولقد سمع - لا شك - هذا الشاب الحلبي بما حدث لأسرى يافا، وما يحدث ليل نهار من جنود الفرنسيين، وشاهد بأم عينية، القائد «كليبر» وهو يحرق القاهرة، وينكِّل بالأزهر ومشايخه.
ذهب الشاب الحلبي إلى الأزهر، وقضى ليلته الأولى عند شيخ له في الأزهر، ثم التقى بعض زملائه من طلاب غزة، وأفضي إليهم بعزمه على قتل قائد الفرنسيين الغزاة فأنكروا عليه ذلك، ورموه بالطيش والجنون، ونصحوه بالإقلاع عنه، فلم يسمح لنصحهم. وتركهم ومكث ثلاثين يوماً في رحاب الأزهر الشريف، مترقباً الفرصة لتنفيذ مرامه.
كان «كليبر» ومعه كبير المهندسين «بروتان» يتفقدان أعمال الترميم بقصر قائد المماليك محمد بك الألفى الذي استولى عليه وجعله مقراً للقيادة العامة للجيش الفرنسي بعد فرار صاحبه. وقد أصاب القصر دمار جزئي لبعض غرفه وممراته بفعل قنابل الثوار خلال ثورتهم. وبينما هما في رواق ببستان القصر تظلله أشجار العنب، تقدم «سليمان الحلبي»، الذي تنكر في هيئة شحاذ رث الثياب، فنهره كليبر بقوله بالمصرية «مافيش»، فاستمر الشاب ماداً يده اليسرى فظنّ كليبر أنه يريد تقبيل يده فمدّ يده إليه فعمد الفتي إلى يده وشده بعنف وطعنه 4 طعنات متوالية في صدره وبطنه وذراعه الأيمن وخده الأيمن أردته قتيلاً. وحاول كبير المهندسين الدفاع عن كليبر فدخل في شجار مع الشاب، الذي طعنه طعنات أفقدته الوعي، وفي هذه الأثناء اندفع جنود الحراسة الذين استنفرهم الصراخ ليجدوا قائدهم قتيلاً.
امتلأت الشوارع بالجنود الفرنسيين، بينما اختبأ سليمان في حديقة منزل مجاور. وكما يقول «الجبرتي»: «عمّروا المدافع، وأرسلوا العساكر إلى الحصون والقلاع، وقالوا لابد من قتل أهل مصر عن آخرهم، واندفع الجنود الفرنسيون كالمجانيين في الشوارع يضربون كل من يقف في طريقهم، وقد اشتد غضبهم وبدا أن جنوناً وبائياً قد أصاب الجميع، قتل الفرنسيون بسيوفهم وخناجرهم جميع من صادفهم من الرجال والأطفال في تلك الساعة من ذلك النهار الذي لم يكن كذلك».
وبعد تفتيش وبحث، أمسك الجنود به، وهو منهك الجسد، ينزف دماءً، وعثروا على الخنجر الذي ارتكب به الحادث مدفوناً في التراب في المكان الذي قبضوا عليه فيه. وعند التحقيق معه، أنكر ارتكابه للجريمة، وتقول الترجمة العربية لنصوص التحقيقات التي نقلها «الجبرتي» مترجمة عن الفرنسية: «فلما كان المتهوم لم يصدُق في جواباته، أمر ساري عسكر «يقصدون القائد مينو أقدم القواد» أنهم يضربونه، حُكم عوائد البلاد. فحال إنضرب لحد أنه طلب العفو، ووعد أنّه يُقر بالصحيح، فارتفع عنه الضرب، وانفكت له سواعده، وصار يحكي من أول وجديد....».
هذا الشاب الحلبي لا تحتفظ لنا كتب التاريخ عنه إلا بالنذر اليسير، معلومات قليلة، وأقوال بسيطة أدلى بها أمام هيئة المحققين المكونة من تسعة أعضاء من كبار رجال الجيش وبرئاسة الجنرال «رينيه» الذين تملأهم ثورة الثأر والانتقام. وتذكر الرواية الفرنسية للتحقيقات والأحداث أن «سليمان الحلبي» قتل «كليبر» بإغراء من أحد رجال الجيش العثماني ليتقرب بهذا القتل إلى وزيره كي يعيده على منصبه وينال رضاه، وأن سليمان اندفع للقتل تحت تأثير هذا التحريض ومقابل أن يُرفع الاضطهاد عن أبيه تاجر الزبد في حلب من قبل حاكمها، وربما كان المقصد من هذا سياسياً.
وخلال هذه المحاكمة لم يكن هناك دفاع، كما أن «سليمان» ظل صامتاً هادئاً كرجل فعل ما يريد ولا يعنيه ما يحدث حوله. وأرجع المدَّعي العمومي جريمة «سليمان الحلبي» إلى التعصب والهلاوس الدينية، فهذا «الشاب المتوحش الموصوم بوصمة الإجرام، أثّرت روح التعصب الديني أبلغ الأثر في رأسه المضطربة بخاطيء الأقاويل عن مقتضيات الإسلام الصحيح، حتى بات يعتقد أن أقوى دعائم الدين، وأعز وسائله هي الجهاد في سبيل الله وموت المشركين». ولعل ما قاله المدَّعي العمومي هذا يثبت أن ما فعله «سليمان» كان جهاداً في سبيل الدين.
ولقد أصدرت المحكمة العسكرية الفرنسية حكمها باعتبار سليمان الحلبي وشركاءه الأربعة مذنبين، لأنه لم يبلغوا عنه عندما علموا بمراده، وبراءة شيخه الذي بات أول ليلة عنده لعدم علمه. وحكمت بإحراق يد سليمان اليمنى، ثم إعدامه على الخازوق وتركه «لحين تأكل رمته الطيور» على حد قول «الجبرتي»، وإعدام شركائه الأربعة أمام عينيه.
نُفذ الحكم في مكان علني فوق تل يسمى «تل العقارب» بمصر القديمة، حيث تقدم «بارتليمي»- محافظ القاهرة اليوناني - فأطاح برؤوس طلاب الأزهر الثلاثة، بينما كان الرابع هارباً، وتسلّم بعض معاونيه الرءوس التي تخضبها الدماء، فرفعوها فوق عصي طويلة، وغرسوها في أرض التل، بينما وضعت جثثهم فوق كومة ضخمة من الحطب والأخشاب، وأشعلوا النيران فيها. وجاء الدور على سليمان فوضعت كفه اليمنى في مجمرة مليئة بالفحم المحمي، فلم يشكِ، ولم يتكلم والنار تأكل لحمه الحي، غير أنه اعترض في إباء حين تعمد «بارتليمي» أن تطال النار مرفقه، منبهاً إياه إلى أن الحكم لم يذكر المرفق بل اليد فقط. وتشاجر سليمان مع «بارتليمي» ونعته بالكلب، وأصّر على حقوقه، ولم يكف عن الاحتجاج إلا حين ازيحت عن مرفقه المجمرة.
ثم قام «برتليمي» بعملية الخوزقة فأحضر قضيباً مدبباً من الحديد، ثم بدأ في إدخاله في شرج «سليمان» بالدَّق بمطرقة خفيفة، حتى لا يحدث نزيفاً يؤدي إلى موته قبل أن يتعذب بما يكفي، وبعد أن انتهى ذلك رفع الخازوق قائماً وعليه سليمان، ثم غُرس في الأرض. طلب سليمان من جندي فرنسي كان يقف على مقربة منه، أن يعطيه شربة ماء، وهمّ الجندي بإعطائه زمزميته، فمنعه «بارتليمي»، إذ سوف تؤدي أي نقطة ماء إلى موته فوراً، فتنقذه من عذابه، وهذا مخالف لمنطوق الحكم. فأخذ يردد الحلبي الشهادتين وآيات من القرآن، وظل على تلك الحال أربع ساعات، حتى جاءه جندي فرنسي، ربما كان نفس الجندي أو غيره، مشفقاً لحاله فأعطاه -بعد خروج الجميع- كأساً ليشرب منه معجلاً بموته.
والحقيقة أن ما تحت أيدينا من مصادر عن قصة هذا الشاب الحلبي لا تعدو كونها مصدرين ينتفى عنهما الحيادية، الأول منهما، المؤرخ المصري «الجبرتي» ثم الوثائق الفرنسية التي سجلت التحقيق معه. و»الجبرتي» لم يكن، فيما يبدو، مشفقاً به فحسب، فقد قال عنه «انضرب لحد أنه طلب العفو»، بل تعدى إلى وصفه بأوصاف، تجعل من «الجبرتي» بوق سلطة، فقد نعت سليمان الحلبي بأنه «رجلٌ أفاقي أهوج». كما أنه نصوص التحقيقات التي أوردها «الجبرتي» لم تكن سوى الترجمة العربية للتحقيق، والتي قام بها اثنان من مترجمي الحملة الفرنسية هما: براسفيش، ولوماكا، وفي هذه الحالة يمكن القول أن الترجمة غير مبرأة.
وقد تفي بعض الكلمات القليلة بما يمكن أن يُسطَّر في سجلات كثيرة، فقد قال سليمان، في التحقيق معه، بعد أن ارتفع عنه الضرب، وانفكت سواعده، عندما سألوه: لماذا جئت من غزة إلى مصر؟ فقال: كان مرادي أن أغازي في سبيل الله. هذه الكلمات البسيطة لربما تنهي الإشكالية المصطنعة التي ما زال البعض يلوكها حتى اليوم، من أن سليمان الحلبي كان قاتلاً ماجوراً وليس بطلاً مجاهداً.
ولعل هذا الشاب الحلبي «الرث الثياب ذو الهيئة المزرية»، كما كتبوا عنه، لم يكن ليهدف من صنيعة هذا بطولة وعظمة، بل كان عمله خالياً من التهويل والتزويق، إنه فعل ما فعل، كما قال في نقاء وتلقائية ومباشرة، لأن مراده أن يغازي، أي يجاهد في سبيل الله ضد هؤلاء الغزاة، الذين جاءوا إلى بلاد المسلمين لينهبوا خيراتها ويقتلوا أهلها رافيعن في ذات الوقت شعار العدل والمساواة والإخاء، بينما تسلحو بقسوة مفرطة لا حد لها، شهدت عليها مذابحهم في الإسكندرية، والقاهرة، ورشيد، والعريش وغيرها من المدن المصرية، ثم يافا، وغزة. والحقيقة أن هذا الشعار لم يكن سوى دجلاً من أعلى طراز كما قال عنه «نابليون» فيما بعد في مذكراته التي كتبها في منفاه في جزيرة سانت هيلانه.
ويُذكر أن رفات «سليمان الحلبي» والخنجر الذي قتل به «كليبر» قد حملها الفرنسيون معهم إلى فرنسا، حيث أودعت متحف الإنسان في باريس، بينما دُفن كليبر في مقابر القصر العيني بالقاهرة.
وبعد قيام ثورة 25 يناير 2011م في مصر، انطلقت من ميدان التحرير في يوليو من العام نفسه عام دعوةً لجمع مليون توقيع، للمطالبة بمخاطبة متحف الإنسان في باريس لإعادة رفات البطل السوري «سليمان الحلبي» وجمجمته إلى مصر ولا ندري ما هو مصير هذه الدعوة الآن.
- د. محمد أبو الفتوح غنيم