د.فوزية أبو خالد
صوت الأم
تقول الأم: بين مدينة الرياض وبين الأمومة شيء من الشبه فهي تملك تلك الطاقة الخلاقة الخفية لتحدي قسوة مناخ الصحراء. فتتحول الرياض مثل الأمهات إلى حضن يلوذ به العصافير من قسوة البرد الصحراوي شتاء ومن شدة الحرارة صيفا.
أن أكون أما في الرياض يعني أن أكون شالاً من الصوف الدافء وشلالا من الماء المنعش في جغرافيا تختصر الفصول الأربعة في شتاء حاد قصير وصيف وهاج طويل. وكما أن حنان الأمومة بديل لسلطة الجغرافيا بمدينة الرياض فإن الأمومة واحدة من المتع الحلال التي لا يمكن أن تستمتع بها في مكان آخر من العالم كما تستمتع بها بمدينة الرياض.فتستطيع الأم أن تستغرق في جميع ملذات الأمومة من الحمل والوحم والولادة والتربية وعشق الأطفال وتكريس كل حياة النساء لها دون منازع أو منافس. الرياض ليست مدينة فقط الرياض أم.
في الرياض تصحو الأم على صوت عصافير السدرة أي صوت الأطفال وتنام عليها وما بين الصحو والنوم تمتد ساعات أحلام النهار. معظم الوقت في الرياض بين الجدران للوقاية من الشمس ومن عيون الآخرين. بالروضة بالمدرسة بالمول وبالبيت. برغم اضمحلال النمط الأسري الممتد للمعيشة داخل حيز منزلي واحد يجمع أكثر من جيل في شجرة العائلة، فإن ذلك النمط لم يلغ تماماً. فالأسرة الممتدة وإن لم تعد تعيش في منزل واحد فإن معظم الأسر في أحياء الرياض الفقيرة والغنية والمتوسطة تعيش في حي واحد. قد يعيش الأبناء في شقق مستقلة ولكنها متجاورة وتكون عادة مجاورة لبيت الأسرة الكبير أي بيت الأجداد. ويكون هناك اجتماع أسبوعي في الغالب يوم الجمعة لجميع الأسر الصغيرة تتنافس فيه الأمهات الصغيرات في اللبس والأكل. الخروج إلى الصحراء جزء من حنين حي لم يروضه التحول من حياة البدو لحياة الحضر فتختطف الأسرة السعودية أطفالها من إدمان الآيباد والصبايا والشباب من مختلف نوافذ التواصل الاجتماعي الإلكتروني كما تختطف الأمهات من المسلسلات والآباء من السياسة على الفضائيات لتهرب بهم إلى الفضاء الصحراوي بعيداً عن أسمنت بيوت قروض التنمية العقاري قريباً من سماء مرصعة بالنجوم ومختلف طائرات الاستخبارات والرحلات العادية. فتفترش الأجيال التي ولدت على حافة آبار النفط ورياح أسعاره وتحولاته السياسية والاجتماعية بمختلف مستوياتها التعليمية والطبقية، رمال النفوذ والدهناء من جديد ولكن بأساليب جديدة. ليصبح «التطعيس» بالسيارات والموترسيكلات هواية شائعة بين الإناث والذكور آباء وأمهات وأبناء وبنات, وإن كان الكل ينكرها والكل في الوقت نفسه يمارسها أو يرقبها بشغف كأحد أشكال الترفيه المستحدثة للأسرة السعودية بجانب حلم السفر أو السفر لأمريكا وأوربا أو إلى دبي تحديداً من دول الخليج.
صوت الأبناء
يقول الشباب: أن تكون من فئة الشباب ذكور وإناث معناه أن تنتمي إلى الشريحة الاجتماعية الأعرض والأوسع في المجتمع السعودي حيث تصل النسبة العمرية لما دون سن الثلاثين من مجمل السكان السعوديين إلى 65%. وهذا ما يشكل تحديا اجتماعيا وسياسيا ومعرفيا في مواجهة سؤال التغير الاجتماعي والتنمية المستدامة.
فالشباب السعودي اليوم له استحقاقات وعنده حريات لم يحلم به جيل الآباء والأمهات ممن قد لا تتجاوز أعمارهم هم أنفسهم الخمسين عاماً. إلا أن هذا الشباب يواجه تحدي التضاد في العيش المتأرجح أو المتجاور بين مجتمع سعودي محافظ بل شديد المحافظة وبين الفضاء الافتراضي الإلكتروني المفتوح على أنواع متعددة من الحريات من حرية التعبير إلى حرية القيم ومن حرية الفكر إلى حرية الجسد. والحالة الشبابية هذه تأتي بالتزامن والتماس مع لحظة تاريخية مفخخة بالحروب وبانهيارات منظومة النظام العربي القديم وبالتحولات غير السلمية عربياً وإقليمياً.
وهذا ما يجعل مدينة الرياض مدينة تجمع اليوم في إيهاب واحد بين الروح المحافظة الأقرب إلى التزمت الذي لا تضله العين من الأسوار العالية للبيوت إلى الفصل بين الجنسين في المطاعم والمقاهي والتعليم والعمل، وبين شكل مدن الكوزمبلتن المعبر عن تعدد الثقافات والجنسيات التي تعيش على أرضها وكذلك المعبر عن تعدد النوافذ الإلكترونية والفضائية التي يطل عليها الشباب السعودي وعن كثافة نمط الاستهلاك الرأسمالي خصوصا والمجتمع لايزال يعيش فورة الطفرة الثانية للبترول. ولابد أن أذكر أنني أكتب هذا التصور القصير عن حياة الشباب السعودي بمدينة الرياض المشحونة بالتحديات وقد عدت للتو من (تظاهرة وطنية واسعة) في حي الحمرا الواقع شرقا من مدينة الرياض, تمثلت في عزاء السيدة هيلة العريني وهي الأم التي اشترك في قتلها ابناها الشابان التوأم الذي لم يتجاوز عمر كل منهما عشرين عاماً؛ لاعتراضها على سفرهما إلى سوريا للالتحاق بداعش وتهديدها لهما بإبلاغ سلطات الأمن السعودي عنهما. لقد أرادت مختلف شرائح المجتمع السعودي بما فيها الشباب أن تجعل من مناسبة العزاء الأليمة تظاهرة احتجاج ومقاومة لظاهرة الإرهاب ولظاهرة العنف ولظاهرة التشدد والتشتت السياسي الذي تمر بها المنطقة العربية. غير أن هذا الموقف وإن كان يعكس إرادة الحياة في مقاومة القتل والموت بمختلف أشكاله من نواقض الحياة فإنه يعكس حجم التحدي الذي يواجهه المجتمع والدولة السعودية لإشراك الشباب في حل التشابك بين الخلفية المحافظة وبين الثورة التقنية المعاصرة بانفتاحها اللامحدود وبين تحولات تجبّ كل ما سبق من دربة التعامل مع الشباب أمام استحقاقات مرحلة جديدة من التاريخ السعودي والعربي.